المقاهي: عن تمرد الجغرافيا وجغرافيا التمرد
أحيانًا نظنُ من طولٍ معاشنا في مكان ما أو معايشتنا لشئ ما، أننا قادرون بسهولة عن الكتابة عنه ومقاربته، لكن في الحقيقة يُمسي هذا الأملُ زائفًا، مع أول إمساكٍ للقلم، والبدء في المقاربة الفعلية. المقهى، وهو المكان الذي ما يفتأ المرء زيارته بشكل شبه يومي، يبدو هنا عصيًا على المقاربة، لا لقلة ما قد يكتبُ عنه، بل المفارقة: لكثرته.
فمع إغلاق المقاهي مؤخرًا ضمن الإجراءات التي تُتخذ عالميًا لمواجهة جائحة كورونا، ثار الحنين جارفًا لدى هؤلاء الذين ما غابوا يومًا عن المقاهي وما ملوا يومًا من ارتيادها، حنينٌ يدفعنا للبحث وراء هذة الأهمية المتزايدة للمقاهي في عالم اليوم.
لكن ما أهمية التنظير والكتابة عن المقاهي إذا ما كانت هي في الأخير أماكن مثل غيرها من أماكن كثيرة تنتمي لعمران المدينة "كالمولات" مثلًا؟ ولماذا المقاهي وليست الكافيهات؟ ما الاستثنائي الذي تمثلُه المقاهي داخل العمران المدَنِي؟
المقاهي كتحرش عمراني بالمدينة
هنا استثناء المقاهي على الحقيقة، أنها لا تنتمي للعمران ممارسًة وإن انتمت إليه وجودًا وتمثُلًا، فالمقاهي تُقَارب كفضاءات متمرِدة على محيطها العمراني، شاذة عن مكونات المدينة الأخرى كالمولات مثلًا -المذكورة سلفًا- والمحسوبة على منظومة الرأسمالية. والتي لا تصارع قيمها ومفاهيمها.
في القاهرة تتراص المقاهي الشعبية في كل الأرجاء، متحرشة ومشاكِلًة لأبنية عمرانية عديدة، وتبدو المقاهي هنا غريبة عليها أو هكذا يظهرُ لنا من الوهلة الأولى. لكن؛ مع الاقتراب تبدو الأخيرة كفضاء متعالٍ عن المدينة، وتمرد جغرافي داخل حيزها. لكن ما الموسوم بالتمردي في المقاهي؟ وما الذي نعنيه بتمرد الجغرافيا الذي تُبديه المقاهي؟
نعني بتمرد الجغرافيا هنا وجود فضاءات تُبدِي شذوذًا عمرانيًا وتعبيريًا عن النمط السائد لأبنية المدينة، فبعض الأبنية العمرانية تنتمي للمدينة وفلسفة بنائها أكثر من غيرها، فتصميم المدينة الحداثي اليوم، لا يضعه المصممون بقدر ما تضعه الرأسمالية وقيمها، وأبنية المدينة باتت تكوينات تهدُف بالأساس إلى خدمة الرأسمالية ومفاهيمها عن تعظيم الربح، ضاربة بعرض الحائط جماليات المكان، وبراح الإنسان الذي يتصاغر وجوده يومًا بعد الأخر، فاقدًا إحساسه بذاته، أمام أبنية عملاقة لا تُعنى به وبوجوده.
المقاهي على رأس تلك الأماكن التي لا تحبُها مدينة اليوم، وتشعُر ناحيتها بغيظٍ كبير، إذ هي تمثلُ حالًة قصوى من التمرد، ففي القاهرة وكما يورد السوسيولوجي الإيراني آصف بيات[1]، ثمة حيز كبير من التمرد العمراني تمارسه اللاحركات الاجتماعية وعلى رأسها الباعة الجائلين، بجوار هؤلاء الباعة هناك تمرد لا يقل من حيث المساحة والأهمية وهو تمرد المقاهي، لكن هل يقتصرُ هذا التمرد على مُلاك المقاهي أم يشارك فيه مُرتادوها؟
الأكيد أن المقاهي حين تتمرد عمرانيًا فإنها تفعل ذلك بمساعدة مرتاديها، من يجلس على المقهى ويمدُ كرسيًا لوسط الشارع هو في الحقيقة يمارس تمرده الخاص على السلطة، التي تحتكر المكان، وتؤطره.
المقاهي: تأميم السلطة للجسد
تُغلق بعض الدول مقاهيها بحلول العاشرة مساءً، ويُبرر هذا الإغلاق بالرغبة في الاستفادة من طاقات الشباب المهدرة وحثِهم على الاستيقاظ مبكرًا. ولتحسين الحياة الزوجية، وتنظيم مواعيد العمل والانضباط، بما يُسهِم في توفير الأيدي العاملة وقوة العمل.[2]
ولمحاولة فهم الفلسفة القابعة وراء هذا الإغلاق المبكر تُصبح العودة لفوكو واجبة، ففوكو يفكك رؤية الدولة الحديثة للجسد باعتباره آلة للعمل، ويرى أن هذا هو ما تُعنى به السلطة بالأساس، وكل ما من شأنه أن يؤثر على قدرة وفاعلية هذا الجسد على الإنتاج، يُصبح بالتبعية عدواً للسلطة، راغبًا في تكسير آلية عملها. ولأن المقاهي هي بالأساس فضاءات للسهر وقضاء وقت الفراغ، فإنها تصُير بالتبعية ذاتها في عداوة مع السلطة، وما يزيد الأمر سوءاً أنها فضاءات غير رسمية، وخارج سلطة الدولة الحديثة من حيث الخطاب. ومن ألتوسير نتعلم أن الدولة الحديثة لم تتوانى منذ التأسيس في تشكيل ترسانتها من "الأجهزة الأيديولوجية" لجهة تنشئة سياسية لمواطنيها، ونقش للأيديولوجيا على الحجر، هذا المسار لم يكن ليتم دون الدخول في معركة طويلة لرسمنة[3]المؤسسات التي لا تقع تحت أيديها، أوقات الفراغ والعطلات، هي واحدة من مؤرقات السلطة على الدوام، لأنها لحظات انفلات للفرد عن مؤسسات الدولة الحديثة وخطابها الذي تدشنه في أجهزتها الأيديولوجية حيث المدرسة والجامعة ووسائل الإعلام وغيرها. بقت أوقات الفراغ والعطلات عصية على هذا الخطاب.
لكن في الأخير وجدت الدولة الحديثة ضالتها في إنشاء الأندية الاجتماعية والترفيهية ووزارات الشباب والرياضة، وضخت كل ما لديها في هذا المسار لرسمنته، وحققت هنالك نجاحات باهرة.
وقفت المقاهي كنقطة خارج إطار هذة الرسمنة، مبتعدة بذلك عن الترويج لخطابات الدولة الحديثة وما ترغب في صكه، بل أفقدتها أيضًا قوة عمل، أو على الأقل أضعفت من إنتاجيتها. وبهذة النظرة لا يكون إغلاق بعض الدول للمقاهي مبكرًا غريبًا أو مستهجنا. فالدولة الحديثة راغبة في إحكام سيطرتها على الجسد، وهي معنية على الدوام بتكريسه للإنتاج.
يُبرر هذا الإغلاق المبكر أيضًا بالرغبة في تحسين الحياة الزوجية، وهو طرٌح يبدو في غير محله، إذ أن سلطة الدولة الحديثة في عداوة مع مؤسسة الجنس هي الأخرى، لأنها تُفقدها قوة عمل متخيلة، والسلطة راغبة بتوفير هذة الطاقة الجنسانية لأعمال إنتاجية تخدم صيرورة الرأسمالية.
المقاهي والذوبان الطبقي
يمكن تصنيف رواد المقاهي اقتصاديًا باعتبارهم من الطبقات الوسطى والدنيا؛ لكن لا يعني هذا بحال أن المقاهي تضم الطبقات الوسطى والدنيا وفقط، إذ تتواجد المقاهي في كل المدن المصرية، حتى تلك المصنفة كتجمعات لطبقات عليا كحي مصر الجديدة أو وسط البلد، وعديد من الشخصيات العامة والفنانين والمثقفين يتخذون من المقاهي ملاذًا ترفيهيًا وثقافيًا لهم، وهو ما يُخرج المقاهي من معناها الضيق كحيز للترفيه عن الطبقة المتوسطة والدنيا، يتميز برخصه النسبي، مقارنة بالنوادي والكافيهات التي لن تتحمل كُلفتها هذة الطبقات، إلى معنى أوسع يتجاوز هذة المقاربة الاقتصادية والطبقية للمقاهي .
يضاف إلى الذوبان الطبقى الرمزي هذا، تنوع عمري لا يقل أهمية، إذ تضم المقاهي فئات عمرية مختلفة من الشباب وكبار السن، وهو ما ينشأ عنه مقاربات مختلفة، ولدينا هنا نظرتين تتقابلان. الأولى؛ نظرة كبار السن للأخر الشاب، وهي نظرة محملة غالبًا بدرجة من التعالي الأخلاقي، إذ يرى العجائز في شباب المقاهي، شبابًا فاشلين، كثيري السهر وقليلي العمل. وصورة تُحرك فيهم حنينًا إلى الزمن المفقود. وهي النظرة التي تواجهها نظرة ثانية مقابلة من الشباب لهؤلاء العجائز؛ ترى فيهم رجالًا فاتهم قطار العمر والحياة، مخفضي الرؤوس على الدومينو أو الطاولة لأنهم لم يستطيعوا رفعها في وجة الحياة. حوارات صامتة، وفي فراغ الصمت هذا يدور كل الكلام. أما الكلام الحقيقي الذي لا يقال فهو خوف الشباب من مستقبل قد ينتهي بهم ليجلسوا مجلس العجائز.
بطالة أم بحث عن براح؟
ينظُر كثيرون لمرتادي المقاهي كعاطلين، لكن هل هذة مسلمة تنطبق على جميع مرتادي المقاهي؟ يبدو أن الفرضية هذة تحتاج لكثير من التمحيص، لأن المقاهي مؤخرًا باتت مساحة للعمل لدى البعض، وعليها تقام اجتماعات وتُقضى مصالح، لكن ليس هنا الدفع الأهم لننفي عنها البطالة، أما الأهم فهو جملة تتردد كثيرًا على ألسنة مرتادي المقاهي، حين يرددون أنهم يشعرون بالحرية والبراح بمجرد الجلوس عليها، وكأنهم خلعوا رداء المشاكل الحياتية بمجرد ولوجها. لكن ما الذي يعنيه هذا؟ هل تخلق المقاهي منا ذواتًا جديدة؟ هل نكون أمام إعادة انوجاد بمجرد الجلوس على المقاهي؟ هنا في الحقيقة مدخل مهم لفهم فضاء المقاهي كفضاء اجتماعي، فهذا الحيز رغم ضيقه الجغرافي يحمل براحه الخاص معنويًا. ربما نحن أمام شئ جديد سيكون هزليًا أن أسميه "علم اجتماع المقاهي". المؤكد أن المقاهي لم تعد للعاطلين بقدر ما هي للباحثين عن البراح، والحرية بعد حروب النهار الاسبرطية الطويلة. ومع حداثة طاحنة، أشتدت وطأتها على الأرواح حد الاختناق، وفي عالم لا يدع مساحة للأفراد للتحرر وتحقيق الذات، تخرُج المقاهي كمساحة للتنفيس عن شباب اليوم المحبوسين في فضاءاتهم الخاصة.
من جهة أخرى فارتياد المقاهي يعد أحيانًا هروبًا من ضيق المجال العام، إلى فُسحة تصبح مع الوقت بديلًا متاحًا وهي فسحة المقاهي، فإغلاق المجال العام يُعيق تحقق الذات وتمثُلها، لأن جزءًا من تمثُل الذات وتحققها لا يظهر إلا في الفضاء العام.
من المقاهي إلى محلات الجزم: الطريق إلى زمن بلا ثقافة
يُثار دائمًا سؤال حول الرابط الذي يشبه الحبل السُري بين المقاهي ووسط البلد(Downtown)، وهو السؤال غير المرتبط ببلد بعينه، بل المتكرر في بلاد عديدة، وهو رابط يعود بالأساس لكون هذة المساحة الجغرافية تُمثل قلب الدولة وتحمل خلاصة قيمها ومبادئها، وأفكارها، وتاريخها، فهي مقر الحكم، وتشهد تاريخ الأمة وأحداثها الجسام، فلا غرابة أن نجد لوسط البلد تاريخًا ممتدًا تحمل فيه المثقفين ويحملوها.
ورغم الحقيقة التاريخية التي تقول بأن وسط البلد تضم أشهر المقاهي التاريخية في مصر، لكن ثمة حقيقة عمرانية قبيحة تظهر اليوم، وهي تحول كثير من هذة المقاهي إلى محلات لبيع الجزم، وهو ليس بالمجاز كما قد يُتصور بل حقيقة صارخة، في عالم تتحول فيها كثير من المؤسسات الثقافية، لمنشأت رأسمالية لا تهدف لشئ سوا الربح. في زمن تُغتال فيه الثقافة على مرأى من الجميع.
وليست المقاهي وحدها التي يهددها الزحف الرأسمالي غير المقدس هذا، بل معها كثير من المكتبات والسينمات والمراكز الثقافية. أي أن الحياة الثقافية برمتها من تتعرض لضربات متتالية، تفقدها أصالتها لجهة منتجات استهلاكية، تنتصر في الأخير لما هو مادي على ما هو معنوي.
يُضاف لذلك منافسة شرسة تخوضها المقاهي مع الكافيهات ومساحات العمل (Co- working spaces) وهي منافسة تشتد، وتدفع المقاهي للتطوير والتحديث في ديكوراتها وتجهيزاتها لجذب قطاعات شبابية أوسع. والبقاء على الدوام كمساحة تمرد وسط عالم حديث لا يفهم كثيرًا غير منطق النمطية والانصياع.
لماذا المقاهي وليست الكافيهات؟
أتخيل أنه من اليسير التنظير للمقاهي، دونًا عن التنظير للكافيهات، في الحقيقة ما الذي يمكنني قوله عن الكافيهات سوى أنها أماكن صامتة، صورة الإنسان المتحضر الرتيبة التي تزدان بحلي المكانة المرموقة والألقاب والنياشين المعلقة، وحتى لو كانت هذة النظرة مجحفة، لكن المؤكد أن المقاهي تقف اليوم على الطرف النقيض من كل ما تمثله الكافيهات.
فإن كان للمقاهي روح فهو في انفلاتها عن المؤطر والنمطي، حتى لمرتاديها، هؤلاء الذي يتحدثون في جلبة وبأصوات عالية، ما يفعلونه يشبه العودة للطبيعة الأولى، نصيحة روسو الخالدة للبشرية. هذا الانفلات السمعي وتشابك الأصوات وتداخلها هو ما يمنح هذة الخطابات المتنوعة زخمها الآسر، على المقهى نحن أمام حشد يحمل في داخله خطابات متشابكة، لأشخاص كما أسلفنا ينتمون لفئات عمرية وطبقية مختلفة، وهو ما يخلق بالضرورة خطابات متنافرة وثرية في آن، سيفسر هذا في الأخير اختيار نجيب محفوظ وغيره من الكُتاب والمثقفين للمقاهي كمكان للكتابة، يتمثل المقهى هنا صورة المجتمع المصغرة.
أشجان الناس وأتراحهم سنجدها هناك على طربيزة الدومينو أو الطاولة، والنفخ في النرجيلة لن يُقارب سوى بكونه تنفيس لغضب اليومي مع كل نفس، يصير المقهى مجاز كبير، لا يمكننا الوقوف مجابهته فقط باعتباره مساحة للترفيه.
[1] آصف بيات: الحياة سياسة كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط. ترجمة، أحمد زايد، القاهرة، منشورات المركز القومي للترجمة، سلسلة العلوم الاجتماعية للباحثين، (2014).
[2] أحمد حسد: معركة القهوة ... مزاج المصريين يتحدى حكامه, درج, 24 أكتوبر 2018, المزيد(https://daraj.com/11048/)
[3] عملية تحويل مؤسسات غير رسمية وخارجة عن سلطة الدولة إلى مؤسسات رسمية وتابعة لها.
Comments
Post a Comment