قراءة في فيلم "الشيخ جاكسون"

لطالما أستمتعت بدخول السينما وحيدا، شئ ما يذكرني بروبرت دنيرو في taxi driver , أدخل السينما وحيدا وأترك للظلام الفرصة ليحتضنك، أجعل من ظلمة السينما، تنينا مجنحا يلتهم ظلام وحدتك المتخيلة، السينما كانت وستظل عالمنا الموازي بعيدا عن مأساوية الواقع ووحشته. أخرج من السينما واتمشى في الظلام، أترك له الفرصة مرة أخرى ليلتهمني بكل كياني. الوحدة المتخيلة لطالما حملت بداخلها لذة محرمة. الشوارع تبث أحزانها إليك، تشكو إليك قلة المارة. وأنت بدورك تبث إليها أحزانك المتخيلة، ووحدتك الأبدية، وقلة النور في قلبك.

المعاني تصير خجلى في قلبك، وتسير في طرقات موحشة، لكن ليست بأشد وحشة من الظلمة في قلبك، تنتهي قدميك أمام حجرة السينما، تدخل وحيدا، فالسينما فارغة من المشاهدين على كل حال. تختار مقعدا متوسطا من شاشة العرض، الفشار في يديك، يجعلك حذرا في تنقلك بين المقاعد، مخافة السقوط، أو صدور صوت يمنع عن الحبيبين في الخلف اقتناص قبلة مارقة، في الظلام. 
مرة آخرى يلتحفك الظلام وتجلس، يملأ الظلام غرفة السينما، ويخرج النور من الشاشة. الشيخ جاكسون.

فيلم جيد، وكلمة جيد هي دائما نافية، فهي تنفي التميز وتنفي في الوقت نفسه القبح أو الفشل. فيلم جيد لمخرج مبهر على الأقل تقنيا، وإن كان ينقصه الثقل الفكري، وهو ما يظهر عادة في ضعف حجته، أو المحتوى المبتسر والمعالجة السطحية أحياناً لكثير من مواضيع أفلامه. عمرو سلامة قدم شيئا مختلفا، لا يمكنك أن تنازع في ذلك، هذا هو الفيلم الأفضل في معالجة نمط حياة المتدينيين، لا شك. خطوة متقدمة كثيرا عن معالجات وحيد حامد الخرقاء في الإرهابي وغيره. لكن الأفضل هنا لا تعنى أكثر من كونه أفضل مما كان قبله من قبيح الأفلام التي عالجت الحالة الإسلامية وتشكلاتها.

لست بصدد تحليل الفيلم سينمائيا فهذا ليس مجالي، ولهذا أهله ومجيديه. لكن ما يهمني في الحقيقة أن أدلو بدلوي في سردية الفيلم الرئيسية المتعلقة، بتقديم نقد لاذع لنمط حياة الإسلاميين.

الفيلم يقدم جرعة شعورية متميزة، خاصة لمن هم مثلي ممن عاشوا  فترة لا بأس بها في بيئة اسلامية محافظة، لها نمط حياتها، الخاص بها، الفيلم يمسني ويمس هؤلاء ببراعة شديدة. وبخفه في التنقل بين أطوار الشخصية الإسلامية يحسد عليها عمرو سلامة. فإشكاليات كالموسيقى والعلاقات العاطفية قبل الزواج وإطلاق اللحية وغيرها، هي إشكاليات متجذرة في البيئات الإسلامية المحافظة، ولطالما أثارت جدلا لا ينتهي في الأوساط الإسلامية. وأحسب أنه لم يحظ موضوع من النقاش والخلاف والتلاسن بعد الخلافات العقدية بين الحركات الإسلامية، كما حازت الموسيقى ومدى حرمانيتها. لذا فالفيلم ولأول مرة ربما في السينما المصرية. يقترب من المجال الخاص للإسلاميين بإحترافية عالية، متلمسا للأوتار الحساسة لهذا المجال المفخخ بالإشكاليات، مثله مثل أي تجمع إنساني آخر.

ما يهم مناقشته هنا وإلاشتباك معه من وجهة نظري، هو سردية الفيلم الرئيسة، وهي تقديم الفيلم لنقد مبطن لنمط حياة الإسلاميين وإشكاليات هذا النمط المعيشي. وفي الحقيقة لا يمكن أن ننكر أن هذا النقد هو الأكثر حيادية من بين كل الأعمال السينمائية التي إقتربت من هذا الفضاء الإسلامي. لكن هل يعني هذا أن عمرو سلامة خرج عن السردية الرئيسة للأعمال التي تناولت نفس الإشكال من قبل؟ ولأي درجة يمكن أن توصف معالجته بالحيادية والموضوعية؟

أعتقد وبشكل كبير أن الفيلم أبعد كثيرا عن أن نصفه بالحيادية والموضوعية، فالفيلم رغم محاولته الحثيثة في تقديم رؤية تحليلة رصينة لإشكاليات الإسلامي المعاصر والحداثي، فإن انحيازات مبطنة لصناع الفيلم قد طغت على العمل في النهاية، ووجهت السردية إلى نهاية تتفق مع توجهات صناع الفيلم. فالفيلم ينتهي بأن يخرج بطل الفيلم خالد عن حيزه الإسلامي بشكل كبير. حتى أنه يحاول تقبيل صديقة مراهقته. هنا ليست المشكلة في أن الإسلامي قد يفعل هذا أو لا. فبالتأكيد المتدينون ما هم إلا بشر يخطئون ويصيبون. لكن الإشكال الحقيقي أن هذه المعالجة التي تنتهي غالبا بتحول الإسلامي، وتغييره الكامل لطريقة حياته لتصير أكثر ليبرالية. هذه المعالجة تضرب في جذور هذا النمط من التدين، وهذا الشكل من الحياة. إنها تجعل من أسلوب الحياة المحافظ، أسلوبا منافيا للحياة. لا يمكن أن تحيا حياة سوية بهذا الأسلوب، هكذا تكون الرسالة المراد إيصالها.

ولأجل أن يتم التأكيد على هذه السردية، نجلب كل الأفعال الأكثر تطرفا مما يمكن أن يمارسه الإسلامي لنثبت أن هذا الأسلوب من الحياة ونمط العيش لا يمكن تحمله، وأنه أشبه بالموت. السردية هنا لا تتحدث عن حالات فردية متطرفة داخل الفضاء الإسلامي، بل إن الطرح يأتي تعميميا، فالفيلم بالكامل لم يطرح نموذجا واحدا لإسلامي معتدل، يوفق بين الممارسة الإسلامية والإقبال على الحياة بشكل طبيعي، لأ يحدث هذا، بل الجميع سيئون. شيخ المسجد سئ وينفر الناس من الدين، ووالد خالد كان متدينا في البداية ثم تحول تماما، لشرب الخمر والزنى بعد وفاة زوجته، خال خالد كذلك هو شيخ متشدد وشخصيته غير مريحه لخالد. وهكذا ...
هنا لا ننفي أن الفضاء الإسلامي يعج بكل هذه النماذج، لكن التعميم هنا، يضرب في الإطار النظري لنمط الممارسة الإسلامي ونمط العيش، وليس في حالات اسأت تطبيق هذا النموذج من العيش. وهنا تقع الإشكالية الحقيقة.

ففرق كبير بين أن أعرض لممارسات فردية خاطئة في أفراد يتبنون نمطا معينا من العيش. وبين أن أضرب في جذور هذا النمط، وأن أظهره على أنه نمط غير متوافق مع الحياة.

وهنا مأزق ليبرالي بإمتياز، فالليبرالية بوصفها نمطا للعيش، حين تتعرض لنقد نمط آخر مخالف، فإنها تمارس نوعا من الإستبداد المبطن، فهي تخبر الآخر المختلف معها في نمط الحياة والعيش، أن نمطك هذا غير إنساني ومخالف للحياة، وبالتالي عليك أن تترك هذا النمط وتتحول إلى نمط أكثر ليبرالية وبالتالي أكثر توافقا مع الحياة، والذي يمنحك حياة مليئة بالحرية والإقبال على الحياة، بعيدا عن النمط الآخر المتطرف والمتشدد والمعادي للحياة.

هذا الطرح لا يختلف البته عن الطرح الإسلامي المقابل، الذي يصور كل من لا يعيشون على النمط الإسلامي في العيش، على أنهم يعانون من أمراض نفسية، وأنهم في ضنك من الحياة والعيش، وفي جحيم من المادية.

فهنا نحن لا ندافع عن نمط بعينه من العيش، إسلاميا كان أو غيره. بل إننا ندافع عن حرية الإنسان في إختيار ما يحلو له من أسلوب للحياة. بدون أن يتعرض نمطه هذا الذي أختاره بإرادته الخاصة، إلى مسار للسخرية والإستهزاء على الشاشات، ليظهر في كل لحظة بأنه يعاني من أمراض نفسية، وإحساس دائم بالإزدواجية، والتطرف. وغيره مما يوصم به الإسلاميين على الشاشات ليل نهار.


Comments

Popular posts from this blog

قراءة في فيلم الأرض

«جنون متبادل»