لماذا أحب جيل الألفية المهرجانات؟
تبدأ الحكاية من الإسكندرية، أو السلام بالقاهرة، يبدأها فيجو أو الدخلاوية، هذا جدال ممتد حول منشأي فن المهرجان، وعن أول مهرجان تم إطلاقه، لكن المؤكد أن بداية المهرجان جاءت من الهامش، حيث المناطق الأكثر فقرًا، والبداية كانت من العام 2007.
فيما بعد مثلت ثورة يناير 2011 الانطلاقة الحقيقية لفن المهرجان، ليخرج من هامشه الضيق إلى المناطق الأكثر غنًا ورقيًا بمعايير اقتصادية، ولفرقة 8% لأوكا وأورتيجا تُعزى هذه الانطلاقة الجديدة، وهي اللحظة أيضًا التي بدأت فيها المهرجانات تدخل الـ "Playlists" لطبقات أعلى، متوسطة وفوق المتوسطة. فما الأسباب؟ وكيف استطاع المهرجان رغم كل ما يواجه به من نقد لاذع في الدخول لهذه الطبقات، وليصبح الفن المفضل لعديد من شباب جيلنا الحالي-جيل الألفية-؟ نتطلع للإجابة على هذا التساؤل في نقاط محددة.
مثل المهرجان منذ البداية خروجًا على النغمة الموسيقية الكلاسيكية والتقليدية المعتادة، ومع إيقاع سريع يواكب إيقاع حياتنا المعاصرة، التي لا يجدُ فيها المرء وقتًا كافيًا لسماع أغنية مدتها ساعة أو أكثر لأم كلثوم، لعب المهرجان على هذه النقطة وفيها حقق نجاحه، لاقى المهرجان هوى في ذائقة جيل تأخذه الحياة يُمنة ويُسرة بسرعتها الجنونية، التي توشكُ أن تُفقِد العقل اتزانه، وهو الاتزان الذي يساعد المهرجان في تدميره، إن المهرجان موسيقيًا هو دعوة صريحة للفرد أن يترك الخيط، وأن يسقُط بكل أريحية، لتنساب الموسيقى بعنفوانها بين أوصاله، غير عابئ ببحثه طول اليوم عن المحافظة على الاتزان وعن التحكم في كل شئ، دقائق في الجنة تقدمها موسيقى المهرجان الصاخبة، للفرد في نهاية اليوم، أو أثناء العمل، أو في الطريق وسط الضجيج، دقائق من الحلم ومن السقوط.
جيل اليوم هو الجيل الأكثر انفتاحًا على مؤثرات كثيرة كوسائل التواصل الاجتماعي والسينما والكتب وغيرها، نظرًا للوصول السهل والسريع الذي يوفره عالم اليوم، لكل هذه المؤثرات. لذا فهو جيل أكثر تأثرًا بما تبثه هذه المؤثرات من أفكار تنويرية وليبرالية وضد سلطوية، يؤثر هذا المحتوى الذي يتلقاه الأفراد على تفضيلاتهم الثقافية والفنية، لذا فجيلنا اليوم يرفض في جزء كبير منه أي نوع من الصوابية الفنية التي يمارسها الكبار على نوع موسيقي كالمهرجان، ويرفض كذلك المنع كثقافة وممارسة، ربما انتشرت عند أجيال سابقة عانت من تأثيرات سلطوية عديدة، وخطاب واحدي.
ورغم أننا نُقر بتزايد الفروق الطبقية بين الأغنياء والفقراء، لكن في المقابل ونظرًا لبنية مجتمعنا اليوم العمرانية والتواصلية، فإن حالة من الذوبان تُخلقُ إجباريًا بين الطبقات، خاصة من هم في سن أصغر، لذا فتأثر الطبقات ببعضها يتزايد يومًا عن الأخر، وعند الحديث عن المهرجان، فالأمر يصبح أشد، لأن المهرجان لم يعد محددًا جغرافيًا بمناطق الهامش، بل يتمدد في كل الأحياء ويخترقها بموسيقاه، والذوبان بين أفراد الطبقات يساهم في نقل المهرجان بسرعة وخفه إلى كل الطبقات، وحول هذه النقطة نورد كلمات لأحد مطربى المهرجان بالشرقية يسمى "زوزا" حين يقول: "الاختلاف الطبقي بين الغني والفقير عقدة ما زالت موجودة، والأغنياء يمنعوا أبنائهم من الاحتكاك بنا، وليس كل من صعد فى مهرجان غير جدير بالاحترام، نحن نوجه رسائل ونصائح داخل أغانينا، ففي البداية كنا نتحدث خلال الأغانى عن طبقتنا الفقيرة؛ فأحب أبناء الأغنياء هذا وتقربوا منا، فكان رد أهاليهم بإبعادهم عنا والنظر إلينا نظرة احتقار، ولكن هناك أيضا رجال أعمال جيدين في التعامل". وكلماته توحي بالمفارقة والانقسام الحاصل بين أبناء الطبقة العليا أنفسهم، فالفئة الأكبر سنًا ترى في المهرجان انحدارًا للذوق العام، في حين يرى فيه الشباب الأصغر سنًا نوعًا فنيًا ملئ بالبهجة والحيوية وله الحق في الوجود، وهو انقسام يبدو قديم جدًا، يبدأ حتى منذ عبد الحليم حافظ، إذ يُنقلُ إلينا معارضة الطبقة الأرستقراطية لغنائه سنوات عديدة، واعتباره انحدارا ذوقيًا، وهو الوقت الذي اتجهت فيه الأرستقراطية لتسمع غناءً أجنبيًا تبتعد به عن هذا الغناء الصاعد.
الأمر في الحقيقة لا يتعلق بالمهرجان وحده، بل يمتد لفنون أخرى كالسينما، وشهدنا في الشهور الأخيرة الاحتفاء الكبير بفيلم الـ"Joker" رغم أن الفيلم يحتفي بدرجة من الأناركية والخروج عن النظام، وهنا النقطة الجوهرية، وهي أننا نعيشُ عصرًا حداثيًا أطبقت فيه الرأسمالية على الصدور حد الاختناق، في عالم منمط، ومحدد، ومتحكمٌ فيه. لذا فإننا أمام جيل يشعر بخيبة أمل دائمة بداخله، من عجزه عن تغيير العالم، وتحقيق ذاته، إذ يشعر دائمًا أن هناك ما يشبه الـ"Matrix" التي تتحكم به وبالعالم، يروم هذا الجيل قدرًا من البراح، ويبحث عنه بحث الغريب عن الوطن، وحيثما يجد قدرًا من كسر تابوهات السلطة والمجتمع والتقاليد والخروج عن النظام فإنه يحتفي به ويرى فيه أملًا كبيرًا، حدث هذا مع المهرجان الذي مثل كسرًا لتابوهات الأغنية التقليدية، ومواضيعها التي تركز على الرومانسية، التي تختفي يومًا بعد الأخر أمام عالم استهلاكي، وفي ظل الحياة في الزمن الصعب. مع جيل مأزوم يعاني من وطأة التقاليد، ونمط الحياة الخانق للروح.
الوسط الغنائي الموجود قبل المهرجان مهد الطريق لانتشاره، فجيلنا الحالي لم يجد نفسه في أغاني الـ"mainstream"، التي رآها سطحية وتركز على موضوعات لا تدخل ضمن اهتمامه، لذا توجه هذا الجيل إلى أغاني الأندرجراوند والمهرجانات التي تمثل ثورة في الكلمات والموسيقى على السائد والمعتاد، وتختار ألفاظها بحرية، وبناءً على قدرتها التعبيرية العالية، حتى لو خالفت ما يطلق عليه الذوق العام، وتعِيد تشكيل الموسيقى كما يحلو لها ولجمهورها، والمهرجان نفسه كان عبارة عن "هيب هوب” أمريكى ممزوج بالأغنية المصرية (إليكترو شعبي).
أخيرًا فإن مع الموسيقى، ينتفي سؤال لماذا نحب ونكره، لأن الموسيقى لها تلك الخاصية في تجاوز كل ما هو طبقي أو ثقافي، أو لغوي، لتخترقنا جميعًا، فقد نحب أغنية هندية ونُعجب بها، رغم أن معرفتنا بالهند لا تتعدى "أميتاب باتشان"، هنا بالتحديد مجد الموسيقى الخالد.
Comments
Post a Comment