من :"تدوينات سنوات الجامعة": محاولة لكتابة شذرية عن الحب

 


النصوص العشرون

النص الأول:

في النهاية تدرك أنك وإن ابتعدت مهما ابتعدت، فإنك قريب، قريبٌ إلى روحها، تلك التي تنقلك من ظُلمتك إلى نورها، لتظل هي القريبة، وإن كانت أبعدهم مسافةً، وأكثرهم بينًا. هذا عهدُها، أن تقترب حد الامتزاج بك، كاسرة كل أسوار قلبك المحصنة، مخترقة كل حُجبك المنيعة، تفترش قلبك أيام وليالي، وأحيانًا تبتعد كأنها ما إقتربت قط، تصيرُ غريبة، أو تدعي أنها غريبة؛ لكن كيف يصير القريبُ غريباً، من يعيد دقات الساعة إلى الوراء، من يهدم أسوار مدينتك من جديد، من يعيد القصة للبدء، من يمحو البدايات، من بإمكانه أن يكتب النهاية، لفيلمك الذي لم تمله رغم أنه طال، أو أنك مللته، لكن مُنعت من الخروج من سينماك. فيلم ذو حبكة مخزية، لزجة بتعبير سارتر، واللزج هو ما يلتصق بك ولا تستطيعُ منه الفكاك، لأنك تريده ولا تريده، وهنا معضلتك. بتفاصيل هادرة، يكاد قلبك وعقلك أن يتوقف عن الإلمام بها يستمر فيلمك -قصتك-. لا جديد إذا سوا أنك في غربة، بعيد عنها أو قريب. غربة محب لا يعرف ماذا يريد من محبوبه. تتذكر الآن مقولة ميشيل ويليبيك :حين تتبنّى مفهوماً مثالياً ونبيلاً ومتكاملاً عن الحب، فأعلم أنك خاسرٌ لا محالة.. لأنه لن يرضيك شئ بعد الآن!. على كل حال، بالنسبة لك يصير وصلها ككقطعها، شوق في شوق، وحنين في حنين، تقرر إذ ذاك أن تصير غربتك أبدية، أن تقع في التيه مختارًا. مختارًا تفضل أن تتغرب اليوم بدلًا من غربة تُسيرك هي إليها مجبرًا. وأنت علمت وتعلم على الدوام أن غربة تختارها خير ألف مرة من غربة تقاد إليها، وإن شُيعت فيها بعبرات الأحبة، وإعتذارات الحبيب، فهي غربة على كل حال، لا يخفف من حملها آسف القدر، أسبابه المنطقية، كل الدروب عند الرحيل تصير مؤلمة، لذا فلن يجدي تململك الآن، كما لن يجدي تمسكك بالوطن، فكل البلاد تصير منفى، غير قلب من نحب. لكنك تصمت وتبقى في غرفتك، ويواسيك باسكال في شذراته حين يخبرك : ينبع شقاء الإنسان من شئ واحد وهو عدم استطاعته البقاء وحيدا في غرفة .

النص الثاني:

لم أنفك أفهمُ الحب إلا كونه بحثًا عن المعنى، أو كما يراه الآن باديو الفيلسوف الفرنسي بحثًا عن الحقيقة، والحقُ أنكِ تمنحين ليس فقط الأشياء معناها بالنسبة لي، بل صار الأمر ولطالما أخبرتك أشدُ وطأةً، إذ صرتِ تمنحين ذاتي هي الآخرى حقيقتها. يجادلني صاحبي لساعات حول إذا كان هناك ثمة فرقٌ بين الحب الجوهري أي العميق الذي يهز الكيان ويعصف بالروح، وبين الحب السطحي الذي يقف على ضفاف التعلق لا يوغل فيه مخافة السقوط، أجادله أنا لساعات عن أن الحب إن لم يكن ثوريًا ماجنًا، فلن يكون أبداً عبوراً للحقيقة، فلن نكتشف ذواتنا إلا بحب يعبر بنا إلى الآخر، لنرى ذواتنا معكوسة في عينية. أحسُ أحيانًا أن عيناكِ لا تكتسب لدي هذه القداسة من لونهما، ربما قداستها تنبع بالأساس من أنها المراءة الوحيدة التي أراني فيها محبوبًا، أو فلنقل مقبولًا، قابلًا للعيش وللحياة. أخبرُ صديقي أن الصوت هو وسيلة الحب الأولى التي تسبق العين أحيانًا، أخبره مازحًا أن تعلقنا بصوت المحب يواسينا أحيانًا عن رتابة الحديث وتكرار الحكاية، صوت من نحب لن أقول دواءٌ يجب أن يباع في الحانات، لكنه يشبه كثيرًا في رأيي نداء الأبدية، أسمعك فأشعر أن صدىً يتردد في كل الأنحاء، يراقص صوتك الموجودات من حولي، وتتعجبين من ضحكي، ولكني أشعرُ إذ تتحدثين بتراقص الأشياء من حولي حبورًا، أراها، أسمعها، أُحرجُ أحيانًا من الحديث في حضرتك، أشعرُ أن الأشياء ستوقفني معنفة في أحد المرات: صهْ يا هذا ودعها هي تتحدث! أخشى أن تعنفني الريح من إيقافي لحديثك. أنتهي لأقول أن لا شئ قادر على أن يعبر بالحزن سوى حب يوازيه، ولا يوصل للحقيقة كما يوصل الحب، وأنا لم أصل إلى هنا إلا بحبك، وأتمنى ألا أعود.

النص الثالث :

ولا شك عندي أن أنقى الحب هو ما يعرج بك إلى جنة الآخرة، كما عرج بروحك إلى نعيم الدنيا وبهجتها. وبهذا التصور يصير الحب لأحدهم أبدياً، يتمرغُ في نعيم الأبدية، لا تخشى فيه لوعة فراق أو مخافة موت. ويصير فراق الأحبة أو موت أحدهم، مجرد جسر للعبور لحياة آخرى هي المنتهى ودار البقاء. وكل حب لا يعرج بك إلى الله فهو ناقص ومفتقد للديمومة. فكل نعيم يعقبه حسرة لا يصير نعيماً. إذ هو بذاك يحمل في جوهره علة بؤسه وحسرته. ولا أصدق للمتحابين في الدنيا من أن يبحثا عن نعيم الآخرة بحثهما عن نعيم الدنيا، وأن يتحروا في ذلك صدق النية وحسن السريرة ما وسعهم الجهد. وبقدر ما يتيح العصر ويقبلُ الشرع. وبذاك تحلُ الألفة، وتتعانق الأرواح، وتهم لنيل مبتغاها في الدنيا ممهدة لنيل رضا الرب في الآخرة. فيصير الحب قوة عمل وبناء ومكمن حركة للشريكين لا مكمن دعه وخمول وأحزان، ولا يصيرُ كل ذلك إلا بأن يفهم الشريكان أنهما جسور لبعضهما البعض، وأن الأصل في الشراكة إنما هو المودة، أي سكون القلب للقلب، وهدأءة الجوارح بلقيا المحبوب، فلا يصير بينهما غم أو حَزن، وإن تناوبت عليهم نوائب الدهر، وغدرات الزمان. والحال في كل ذلك إنما طلب الحب طلبا لرضا رب كريم أكرم، ومجاورة رسول مصطفى مكرم.

النص الرابع :

ثم أن لغتي في رحابة عينيك كانت مسجونة، ليس لأني فقدت الكلمات بل لأن الصورة بدت أكثف من كلماتي، يحكيني الطيب صالح بقوله:

- “ كان المكان صامتا، لا كما تنعدم الضجة، بل كأن النطق لم يخلق بعد.”

لكني نظرت ونظرت، صامتا وموغلا في صمتي، عجزت كلماتي، وأعجزني واقعي، وذكرت دنقل إذ يحكيني هو الآخر :

- “ كيف تنظر في عيني امرأة..

أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟

كيف تصبح فارسها في الغرام؟ ”.

وصمت من جديد، وكأن الصمت سيغني عن الكلام، وكأني سأستبدل الحروف والكلمات، بنظرات وعبرات تحكيني، تحكي خجلتي، أمام طغيان وجودك، لكن بدت اللغة من جديدة متمردة، أنطقتها فما نطقت، وأستمر الصمت، حتى أني حسبته يطول إلى يوم القيامة. وبدا الصمت قناع، والكلام وهم، ولم أفهم، ولم تفهميني، لكني مضيت في صمتي لا أالو على شئ، فماذا أملك في حضرتك غير الصمت، يحكيني تشرشل من جديد :

- “ إنني لا أملك ما أقدمه، سوى الدم والدموع والعرق ”.

وتوقفت عن كل شئ، وأعتزلت الدنيا وخالطك، وتوحدت بروحي، نسيت الناس وأنسهم، وأتنست بطيف منك، وإن بدا صامتا -مثلي-. لكني أكتفيت به عن كلام الدنيا، ومضيت لأفهم الصورة وما تحكيه، ولم أفهم ولم تفهميني، وعدت لأنظر، ولم أنطق، حلفت مرارا ألا أنطق، ولم أنطق، وطال الصمت، وطال صمتي

من وحي فيلم “ persona ”

النص الخامس :

إن خُيرت فلن أختار سوا البقاء هنا معكِ، لأن الدرب بدونك سيطول، وسيستمرُ الحزنُ إلى الأبد، وستزداد الحياة كاءبة على كاءبتها، سيطول الأرق، وستثقلُ الخطى على ثقلها، وسيصبح قرار الاستيقاظ صباحاً كقرار إعلان الحرب، ستتشابه صفحات الكتب، ربما أكرهُ القراءة، أهجرُ الأدب، سأحنقُ على كونديرا وديستوفيسكي، صدقِ سيصير صوت فيروز كئيباً، وسأمل الموسيقى، ساغادر السينما قبل نهاية الفيلم، سأترك المشهد الأخير، سأهجر السينما، سأفتقد التناص بين محياك وبين وجوه الأبطال، ستصير كلهن كئيبات، لأنهن لا يشبهنك. سأتغيبُ عن كل جلسات الرفاق، سأصبح كئيباً، لن أمازحهم، ولن يمازحوني، سأكره رونالدو، وسأتوقف عن دفاعي المستميت عن بنزيما، فقط لأن الحياة صارت بغيبتك حزينة، سأعيد الخيبات، واحدة تلو الأخرى، سأعدها. ربما سأرسمها وأعلقها على الحائط، لتذكرني بألا أكرر الخطيئة. لن أنتظر أيام الثلاثاء والأربعاء، لن أشاهد الأبطال، سأهجر القهوة أيام السبت والأحد، سأتوقف عن تشجيع أرسنال، لكن سأظل وفياً لحب أوزيل، حتماً سأكره كل هذه الدروب، سأهجرها جميعاً، وسأبحث عن دروب أخرى، وسأصنع من هذا العالم عالماً آخر، سأعيد تشكيله، سأعيد تشكيل المساء لا ليليق بخيبتي كما يحكي درويش، لكن لأبقى.

النص السادس :

أيهما أدعىَ لأنَّ يخشى، وجودٌ مهدد بشبح الغياب؟ أم غياب مهدد بشبح الوجود؟. لن تعبر هذا الخيط مهما حاولت، ستقع ألف مرة. تعامل مع الموجود كما هو موجود، صَدقْ هايدجر! وأنسى مؤقتاً يوتوبيات جيجك عن التخفف من الذات في حضرة المحبوب، وأنفض عبثيات كافكا، رسائله التى لم تُقرأ، تجاوز باديو، وأعبرْ كل الغزل، أتركْ الآمر، دعه يتداعى بداخلك، وتناسى مؤقتاً، طويلاً إن شئت.

فلا شئ هنا يبدو حقيقي، ولا شئ يبدو أبدي، كل ما هنالك هو حفنة إستعارات غير حقيقية لواقع غير حقيقي، أو ليس أهلً لأن يكون حقيقي، وإن كان حري به أن يكون. دع المجاز على عتبة هذا البعيد القادم، ولتستأذر باللغة كأنها رفيقك الوحيد، وكأن لا رفيق لك. حسناً لا ضير من ألا يكون لك صديق، لكن لا تستأثر بالمجاز، هن يعجبهم مجازك، وأنت لا تحبُ المجاز. تستعير بالخيال عن واقعك.  وهو واقع مسترسل في سرديته القاتمة، لا جديد هنالك، لا تسطلي الكلمات، لا تفهم المعنى، غربة اللغة، هي غربتك. وإن حاولت.

لا تحكي ذاتك، ولا تتخفف منها، لا تعبرها إلى غيرها، سيبدو كل آخر سراباً، وستضطر لتعود إليك، لكن لربما تكون آناك قد أندثرت بفعل آخرك. كيف تخون ذاتك وتحكيها؟ وإن صُمت الأذان! وإن لم تُفهم الحكاية! تعرية الذات نوع مقدس من الإنتحار، نوع ربما لن يدخلك النار، لكن حتماً سيدخلك الجحيم. لذا فلألف مرة، لا تحك ذاتك. لا تُخبر عنها، أصنع منها لوغاريتميات، لا يحلها إلاك، وأندثر بأناك وتدثر بها، من كل آخر وإن بدا أنه ينتمي لأناك.

النص السابع :

في الحقيقة تبدو الهوه بين ما تخطه أقلام الكتاب وبين واقعهم الشخصي في غاية الإتساع، تتحول الحكمة التي تملأ كلماتهم إلى حماقة في اليومي والمعاش الخاص بهم. أغلب من يكتبون عن نصائح في العلاقات العاطفية والاجتماعية هم في الأغلب لا يمكن تحملهم في العلاقات العاطفية والاجتماعية الخاصة بهم، هذا ربما لأن الكاتب لا يكتب أبداً عما يعيشه، ربما حتى الكتابة نفسها لا تحكي معاشنا بقدر ما تحكي نقصنا، ما فشلنا في تحقيقه في واقعنا، حكيناه على الورق. كافكا من بين كثير من الكتاب كان صادقاً وواضحا ومعترفاً بهذا النقص في رسائله إلى ميلينا :

من كافكا إلى ميلينا، لن تستطيعي البقاء إلى جانبى مدة يومين، أنا رخو، أزحف على الأرض، أنا صامت طوال الوقت، إنطوائى، كئيب، متذمر، أنانى، وسوداوى. هل ستتحملى حياة الرهبنة كما أحياها !؟ .. أقضى معظم الوقت محتجزاً في غرفتى أو أطوى الأزقة وحدي. لا أريد تعاستك يا ميلينا أخرجي من هذه الحلقة الملعونة التى سجنتك فيها عندما أعمانى الحب

النص الثامن :

عودة للكتابة عن كل الأشياء المؤجلة، الحب المؤجل، الخوف المؤجل، والتوبة المؤجلة، وإنتظار المؤجل، البعيد

محاولا رسم الكلمات لكنها لا تصيب، تظل في خيبتها المعتادة، تبحث عن المعنى فلا تجده، لكن تجد روحك هناك ممزقة كأنها في تيه سرمدي، لا تبدو الكتابة الآن مواساة، لا تمثل الحروف إعتذارات، لا تجدي السطور وإن كثرت، كثرت ندباتك.

لا شئ يشي بأن ثمه جديد سوى خوف المؤجل، خوف القادم المتستر في عباءة المستقبل، لا مستقبل في البعيد سوى الماضي، يعيد نفسه، يكتب نفسه من جديد، إختلاف الكلمات لا يعني إختلاف المعنى، المعنى واحد خوف المؤجل.

رأيتك حين عبرت من واد إلى واد، من حزن إلى حزن، كنت مدثرة برداء المؤجل، حب مؤجل، خوف مؤجل، توبة مؤجلة، وأنتي بدوت مؤجلة، لا أعلم مؤقته ستكونين أم نهائية، لكنك لا تشبهيني، أنا ماض، لا يحملني اليوم، لن يقوى الغد على حملي، لا خرائط تميزني، لا حدود لخيبتي، وأنتي طريق، واضح، ممهد، يفهم دربه، يحفظ الخريطة، وأنا تائه بين الحدود، حدود أمسي، وفقري، وشوقي، وحلمي الكئيب الخائف، المتعلق بأهداب الوصول، لدولتك، حيث تسكنين، وحيث تمتد حدودك، ذاك المستحيل إلى وطن، لكني لن أعبر، أتحسس جيبي، الفارغ، نقودي الشحيحه، فتخبرني بأني لن أعبر، لن يسمح لي بعبور حدودك، سيوقفني ألف ألف منهم.

أقرر العودة إلى، إلى كهفي، إلى مدينتي، حيث لا شئ، سوى الدم والدموع، وشذرات النظر الأخير، من شباكي المتهالك إلى جنة عيناك، وهما يغروني من جديد بعبور الحدود، لأصل إلى بلادك، وأعود، وأعود … فتوقفني نقودي ويمنعوني وتمنعيني، فلا أعود.

النص التاسع :

عيناها تحكي كل الأشياء، تحسب أنها لم تترك مجازا للشعراء، لا كلمات تبقت للأدباء ليلوكوها في أدبهم، لا شئ. كل براءة الأطفال ضنت بها لابتسامتها، فكأن العالم حين تضحك لم يعرف بؤسا قط، وكأن الحزن في قلبه شيع مقتولا بحضورها،  لا غياب إذا إن هي حضرت ولا حضور إن هي غابت، كأنها البدء والمنتهى، أول البيت وعجزه. هذا العالم الموغل في تعقيده يبدو أمام بساطة ضحكتها بسيطا وسخيفا، يفقد عمق غموضه، ترديه ضحكتها في مقتل، غموض العالم يتصاغر أمام وطأة حضورها، عفويتها الآسره تجعل من العالم أضحوكة، ظل العالم والوجود لغزه الأبدي، وهمه الممتد، بحضورها فقط منح الإجابات، تبدو كل أشياء العالم مفسرة ومعلله أمام يديها، تبدو جميعها منطقية، هي العلة لكل الأشياء، لا نسبية ولا كوانتم ولا غيرها من نظريات العلم تقدم نماذج تفسيريه لهذا التعقيد، كما تقدم عينيها، هي العلة ولا شئ أمام حضورها يعجزه تفسيره. البداية هنا والنهاية حتما ستكون هنا، إن اضأت هي العتمه يوما في قلبك، فوحدها من بإمكانها أن تعيده لظلامه الأول، عتمته المحزنة، كما بدأتك تعيدك، هنا رهان وجودها، وضريبته.

النص العاشر :

الحبُ لا يمنحنا أشياءًا كثيرة ربما، ربما حتى لا يمنحنا آي شئ، كان يسأل مرارًا، ما الفرق بين حاله في حضرتها وحاله في غيابها؟ كانت الإجابة تبدو عسيرة ومبهمة. ستدرك مع الوقت أنّ ما تفعله وأنت محب هو ما تفعله في العادة، لا جديد. لكن في حضرة الغياب الطويل ستجد الإجابة جلية تفقأ العينين: إنه المعنى.

الحب يمنحُ للأشياءِ معناها، كل الأشياءِ في حضرة الحب تبدو ذات غاية، مبررة بشكل من الأشكال، للورود سبب للوجود، للشجر سبب، للحجر، وللبشر سبب، للحرب سبب، وللمعاناة سبب، للجحيم سبب. الحب يمنح كل هذه الأشياء سبب لوجودها، مجازًا يمكنك القول أنّه يكسبها ماهيتها.

الحب بهذا المعنى يشكل عالمك. ما يحدث عند موت هذا الحب في قلبك، هو أن العالم يفقدُ سبب وجوده، تصير الأشياء عارية من كل سبب لوجودها. تشعرُ حينها أنك سقطت في قاع الفراغ، فراغ سرمدي من اللامعنى، تعود لتفعل ما أعتدت عليه، لكنه يصير رتيبًا مملًا … سقطت في الجحيم.

النص الحادي عشر :

من الأفكار الشائعة جداً في الأدب وفي فلسفة الحب عامة فكرة إن الحب بيحولنا لأشخاص آخرين أو بيصنع منا ذوات مختلفة أكثر سمواً وأكثر إشراقاً. في فيلم original sin وعلى لسان بطل الفيلم انتونيو بانديراس وهو بيكلم أنجلينا جولي فبيقولها “ أنا شخص آخر معك، شخص أشبه بنفسي ” … الجملة دي في الحقيقة بتغير فكرتنا الأساسية عن دور الحب في تغييرنا، الحب هنا مش بيغيرنا لأشخاص آخرين لكن ببساطة بيعيد إحياء ذواتنا، بيزيح الأتربة من عليها، وبيجلو الصدأ المتراكم عليها. الحب بيدينا الثقة في إننا نقدر نعيش حياة نبيلة وسامية زي ما دايماً بنحلم ونتمنى في لحظات خيالنا، الحب بيوضحلنا إننا بنعيش حياة غير سوية مش لأننا أشرار ونفوسنا قبيحة، لكن ببساطة لأن السياق مريض والناس مش بتدينا الفرصة إننا نطلع ذواتنا الحقيقية. الحب مش بيحولنا لأشخاص تانية غريبة عن نفوسنا، لكنه بيحيي الخير إلى جوانا، ده الحب الوحيد إلي يستحق إننا نناضل عشانه، لكن كل حب بيخرج أسوأ ما فينا فهو حب مريض ربما ميستحقش وصفه بالحب. في الحب أنت مش محتاج تتغير لشخص آخر يناسب المحبوب أو يتناسب مع حالة الحب الجديدة، كل إلى عليك وعلى الحب هو إنه يرجعك لفطرتك الأولى الخيرة، يرجعك لنفسك قبل ما تشتبك مع قبح العالم.

النص الثاني عشر :

هي لحظة لا تسير فيها الأشياء كعهد سيرانها القديم، تتبدل متشحة بأبدية الإنتهاء، فكما أن للكون صيرورته، التي لا تحابي أحدا لا ملوكا ولا أنبياء، كذا الكلمات هي كالموت محايدة بشكل كامل مع كل البشر، الكل يموت وكذا الكل إن قال شيئا فلا يمكنه التراجع عنه.

الكلمات هي على الحقيقة أثقل ما خلق الله في كونه. فالإيمان وهو أثمن أسئلة البشرية إجابته كلمة تنقلك من دين لدين، ومن درك الوثنية إلى رحابة التوحيد. حتى أوثق عرى العلاقات الإجتماعية، والميثاق الغليظ - الزواج - يبدأ بكلمة وينتهي بكلمة.

لا تفهم على الحقيقة مع كل هذه الأهمية للكلمة في مسار التاريخ ومسار الإنسان، كيف للبعض أن يستخف بالكلمات ويلوكها في غير حساب، فبعض الكلمات خطوط حدية تنقلنا من مسار لآخر، لا نعود بعدها كما كنا قبلها، بعضها لا يمحى من الذاكرة ولا من تمظهره في الواقع وإن حاولنا، يظل مخبووء مهما سعينا لمحوه، هذه الكلمات لا يعي البعض كيف أنها تغير المعادلة، قد تقيم حربا وقد تؤذن بسلام، قد تنهي حبا، وقد تبني حبا.

الحب وهو أعلى تجلياتنا الفلسفية قاطبة، يعبر عنه  بمفردة “ أحبك "، هذه اللفظة التي تتكون من أربعة حروف لا أكثر، لها من الكثافة ما لا يحمله سواها من الكلمات، حتى أنها لتغني أحيانًا عن أطنان الكتب والمجلدات. لا يصير المرء بعد هذه اللفظة كما كان قبلها، ولا يفهم أن يعود كما بدأ، هي من الكلمات التي تحمل نسيم الأبدية بداخلها وبين حروفها، والأمر هنا ليس مشروطا بأن تصل المحب أو تقطعه، فهي أبدية على كل حال، وليست مرتبطة بأن يصدقها الواقع أو لا. خروجها يغير في مسار كونك الشخصي، عالمك يتلون بعدها بألوان غير الألوان، ويكتسي بحلة غير الحلة، إنه ولوج مختار إلى عالم آخر وكوكب آخر أنت لم تسمع به ما لم تدخله، لأن من ذاق وحده عرف.

ورغم أن مفردة ” أحبك “ تحمل هذه الأبدية، إذ تنقلك من مرحلة لأخرى، فإن مفردة ” لا أحبك “ تحمل ذات النسيم من الأبدية هي الآخرى، لأنها تعني نفيا للأولى. وحين ينطق المرء مفردة ” لا أحبك “ بعد أن نطق في الماضي مفردة ” أحبك “، فإن كل ما يمكن فعله تاليا هو مجرد محاولة عبثية لمحو الأثر، لا لنعود للمفردة الأولى ” أحبك “ بل فقط لننفي ” لا أحبك “ لذا فإن ما يأتي لاحقا لا يكون حبا، بل هو مجرد فعل للتجاوز، للإبقاء على بقايا الحب، هو درب من بكاء الأطلال على لحظات ما قبل ” لا أحبك “.

خلاصة الآمر، أن مفردتي ” أحبك “ و ” لا أحبك “ هي أعظم من أن تلوكها الألسنة ليل نهار، إنها تحتاج لدرجة عالية من التأني لأن ما بعدها ليس كما قبلها. ولأنها تغير خرائطنا الشخصية عوالمنا وكواكبنا.

النص الثالث عشر :

في طريق النسيان قد تمحو الألم لكنك لا تمحو الخيبة، أخبر صديقي.

كرجل يفهم جرحه لا تبتأس من أن تخسر معركة نسيانك لأحدهم، لم يكسبها أحد قبلك، لتفعل أنت. مع الوقت تتعلم كيف تتقبل الهزائم بحزن الكبار وشهامة البائسين. حين تخسر معركة النسيان فهي لا تكون خسارتك أنت، خسرها قبلك الجميع، وهنا سلواك الأبدية.

لا تحاول أن تغير الطريق، لا تحذف المحادثة، ولا تقطع الرسائل، ولا تنسي حزنك. التصالح لا يعني أبدا أن تمحو الأشياء كأنها لم توجد، فهي وجدت في يوم الأيام، شئت أنت أم أبيت، أن تمحو الشئ لا يعني البته أنه لم يكن موجودا، في الحقيقة لم نمنح نحن كبشر إمكانية محو الأشياء كأنها لم توجد. لذا فلتتصالح مع نبضات قلبك المتسارعة، حين تقابل ذكراه، ربما يطلب منك آخرون أكثر من التصالح مع الذكرى، قد يتجرأ بعضهم ليطلب منك أن تحب الذكرى، هؤلاء وقحون بعض الشئ.

في الطريق الطويل، يخبرك أحدهم أن القادم من بعيد هذا لا ينسى، كان يوما ما صديقا جيدا لا تعدمه في شدتك قبل فرحك. صار اليوم غريبا، يسألك أحدهم: لماذا يتغرب الأحبة؟

هل هذه الأشياء تستحق الكتابة؟! هل الكلمات تتحمل هذه الكثافة من اللاشئ، لماذا يطغى إحساسك باللاشيئية على كل الموجود. يوقفك عجوز في نهاية الممر: لا تعبر الجسر فهناك حزن لا ينتهي!

تخبر العجوزة الآخرى على ناصية الشارع أنك لم تقبل الحزن مختارا، كما أنك لم تختر الطريق. يتحاذق رفيقك: إخترت وجودك. تجيبه ممسكا بأسنانك: لا لم أختره.

مبتسما تعبر الجسر، مطلقا نظرك إلى العجوز ومرددا: يا سيدي عبرت الجسر، لا لم أختر عبور الجسر على الحقيقة، لكني عبرت على كل حال، يا سيدي سأخبر الحزن عن تحذيراتك، سيبتسم هو الآخر، ربما يتهكم علي لأني لم أطاوعك وعبرت الجسر. سيدي العجوز صدقني لم أختر عبور الجسر، صدقني لم يختر أي من هؤلاء الواقفون في البعيد الحزن. الحزن هو من اختارهم ربما.

فان جوخ يكتب رسالته الأخيرة، ويرددها الجميع هنا على الجانب الآخر من الجسر: الحزن سيدوم للأبد.

النص الرابع عشر:

في ركضي الأبدي إليكِ كنت أظنُ أن النهاية ستكون كلمة، تبدو في غرابة مشهدي الأخير لا تعني شيئاً. لماذا يستحيل الشئ عند تحقق الوصول لا شئ. هل لأن شهوة الإختراق هي الشهوة والوصول ما هو إلا سراب. اليوم وعلى عتبة هذا الجديد القادم، تبدو الأبدية حلم جميل يراود كلانا. تسأليني أنبقى للأبد؟ فأجيبك بيني وبين نفسي: الأبدية وهمٌ جميل وهي مجاز فلسفي مخادع. وكنتِ تضحكين مرددة: العدم كذلك وهمٌ فلسفي مراوغ فالفيزياء لا تعرف شئ إسمه العدم أنت وأصدقائك سيوران وكامو أخترعتموه. هل كنت تتمني روحاً تسكن إليها، أم فتاة تباريها في ساحة المجاز والفلسفة. تصير غير عابئاً الآن بما تريده أو بما أردته. لأنك وبشكل ما متيقن أن ما تريده الآن لن ترده غداً، كما أن ما أردته بالأمس لا ترده اليوم، وما ستريده غداً لن ترده بعد الغد. كل الأشياء ستنتهي في اللاشئ، فلا يهم على الحقيقة أن تركض في ساحة الأبدية، أو أن يرديك الفناء قتيلا.ً فكل الأشياء تنتهي إلى اللاشئ إلى اللاشئ.

النص الخامس عشر :

تمثل المعاني ليس هينا، فللمعاني ثقل. وهي لم تفهم في أي لحظة كيف لها أن تكون بورتريه في عينيه يرى من خلالها معاني الحب والجمال والنقاء مجسمه، ومرسومة بأدق تفاصيلها.

ليس كلاما عن الحب. ربما هو كلام عن المجاز، أيهما أهم للحديث عنه، الحب أم المجاز ؟ يسأل نفسه.

لكن شئ ما في داخله يخبره أن المجاز كان وسيظل أسمى من الحب، هل يكفي أن نكتب عن الحب لنفهم من نحب مشاعرنا، ومكانتهم في سويداء قلوبنا ؟ لطالما أعتقد هو أن مفهوم الحب قاصر وهزيل ليصف هذا الوجد وهذا الشعور الطاغي الذي يتحرش بأناتنا أمام آخر كان في يوم من الأيام غريبا، وصار هو اليوم القريب الوحيد في زمن الغربه الثانية والوحشة الأخيرة.

يستبدل هو الحب بالمجاز، لأنه يرى في المجاز تجسيما لكل المعاني الثقيلة التي يصعب عليه فهمها. تسأل هي سؤال الحب : أتحبني ؟

فيجيب هو بسؤال المجاز : أشعر بوطأة المعاني تجاهك، أكاد أختنق من ثقلها اللانهائي. هل ستبتعدي ؟

لا يملك المرء في الهوى بدلا، ولا يعرف عاشق إرتواء، وباد هواك يا رفيق عرفت أم لم تعرف. لكنك خائف من ألا تسعفك الحياة لتفهم المجاز، وخائف من ألا تسعفك الرحلة لتفهم المعاني فتموت شهيدا لثقل المعاني. فيسميك الناس كذبا: شهيد الحب !

لكن هو متأكد تماماً من أنه ولو لم يكن يفهم معني المجاز وثقل المعنى. لكنه حصيف وماهر في فهم معاني وفلسفة الوجود والغياب. هو جاهل ربما بكل شئ لكنه يقدر تماماً كيف أنها صارت وبشكل ما دليلا على وجوده. وأنه وبشكل ما أيضا سيغيب وجوده وسيخبو تماما إن هي غابت. إنه ليفهم معنى الآين أعظم الفهم. وإنه ليقسم في هداءة الليل وفي سرمدية الظلام المتحرش بالحجرة الحزينة أنه سيحمي وجودها لكي يحمي الوجود.

النص السادس عشر :

ممسكا بثقل لا يطاق عبرت الجسر، ممسكة بخفة لا تقاوم تلقفتني روحها.

لا تبدو ذكوريتك في حال كهذا الحال سوى شماعة تعلق عليها خيبتك، غضبك المستعر في كل وقت، ردودك غير المنطقية، كلماتك التي تلقيها يمنة ويسره، غير عابأ بروحها التي تمزقها الحروف، ما بالك بالكلمات والسطور. ذكوريتك هي السبب؟ تبرر ألف مرة أنك ما فعلت إلا حماية لكرامتك، التي تبدو في لحظات كثيرة أهم لديك من كل الأشياء. أهم منها، وهي الأهم تعلم ذلك ولا تخفيه.

حين قبلت بأن تخوض البحر ممسكا بيديها، كنت تعلم أنك مثخن بالجراح، وبالحزن وبالعدم، حزن غلف بتعامل أبله وأحمق مع مصطلحات كالرحيل والغياب، تبدو في وزرتك الأخرى، أقدر على أن تفلت يدي الآخر في غير كثير من التفكير، كنت تحسب أنها كالبقية، حين تقرر الرحيل سترحل، حين تطلب من الشمس أن تغيب ستغيب، ومن الذكرى أن تنتفي ستنتفي. لكن الويل لك ألف مرة. فلا الشمس غابت ولا الذكرى أنتفت.

اتتك هي في عدمك السرمدي حاملة شعاعا من روحها، تلك الروح التي ذكرتك وتذكرك في كل مرة بخطاياك. تسأل نفسك كيف لروح كروحها أن تمتلك تلك البراءة؟ تنظر لروحك أنت وقد لوثت بالأمراض التي لا يشفي علتها لا طبيب ولا قريب، صارت هي وبشكل ما مرآة لقبحك، وهي الجميلة لا يقاربها في جمالها جميل.

يعلم هو ولا تعلم هي، أنه في كل مرة حمل سوطا من الكلمات الغاشمة، إنما كان يطارحها الشوق الحزين، خوفا منها عليها، كان يقسو بالكلمات، لكنها قسوة صقر جريح ينفس لحظاته الأخيرة، خوفا من رحيلها كان يحتد، لا يحب العشاق أن يظهروا ضعفاء في مشهد الوداع الأخير، تبدو الصلابة حينها والجلد نوعا من الفناء في الحب، يمنحونه قداسة بهذا الثبات المفتعل الكاذب.

لا تعلم هي أنها صارت القشة الأخيرة التي تنجي الغريق، وهو غريق لحزنه السرمدي، تمنى لو أنها فهمت أنها والقسم لله، صارت جنده الأخير بعد أن مات الجميع، إنها ظهره الذي يشد عضده حين خان الجميع، يسألها مبتسما: لو خان سبارتكوس يوليوس قيصر: هل تخونيني ؟

لا تفهم ما يرمي إليه، لكنها تمضي راضية على كل حال.

بعض المشاعر غير قابلة لأن تنقل على الورق، كثافتها أعلى من كثافة الحبر، لا يسعها سوى فضاء المجاز، وحين أحبها اخبرها، أن الأراضين ستضيق بنا، ولن يسعنا سوا مجاز السماوات، الآن هو يحبها نيابة عن كل النجوم، وعن كل العابرين.

حين أخبرها أنها جميلة شعر أنه يتحدث بالنيابة عن كل الفتية الذين رؤها في الطريق وخافوا مدح جمالها، مخافة الإتهام بالتحرش، إنه ينوب عن كل ذرة تراب وكل حجر وكل ورقة شجر وكل نجم في السماء وكل جماد أرادوا أن يخبروها مع كل صباح أنها جميلة ولم يستطيعوا. حين أخبرها في الهزيع الأخير من أحد الليالي أنه يحبها، كان ينطق بلسان عصافيرها الذين أرادوا في كل مرة تطعمهم فيها أن يخبروها أنهم يحبونها: نطق هو باسمهم لأنهم فقط لم يستطيعوا.

إنه عالق هنا حد الغرق، ويعلم أن ألف ألف من الصفحات لن تكفي لتحكي شيئا من نعيم الأبدية الذي يراه مرتسما على عينيها مع كل لقيا، لكن ما حيلة اللغة وما حيلة المجاز مع عينين كعيناها وروح كروحها.

النص السابع عشر :

كانت السماء تمور مورا، وعلا الضجيج حتى غطى الأنحاء، فلكأنه قد صم من علوه وإنتفاشه، لكن صوتا رخيما كان يتدفق بقوة مخترقا الأجواء، كأن طمأنينة إلهية قد منحت لهذا الصوت.

تخبره هي أن بإمكان الجمال أن ينقذ العالم. يخبرها هو أنها تنقذه.

تسأل هي: لماذا أنا؟ فيجيب :

- ” You can never replace anyone because everyone is made up of such beautiful specific details.“

لا سؤال هنا، لا جواب، ليس ثمة معاناة في الحضور، تكمن المعاناة على الحقيقة في الغياب، لذا لا تغيب، لأن الشمس لن تشرق حينها، ولن ينجو العالم، ولن أنجو أنا، سيتملكني العدم، ستغتالني الوحدة، ولن نجد في الأنحاء من يرسم البسمة، لن نجد جيران، لذا رجاءا ضلي أنتي العنوان لأنه في بعدك ملناش جيران. علا صوت التراك، وأطلق هو ضحكته لعل الهواء يجود فينقلها.

النص الثامن عشر :

حنا أرندت تسأل في دراسة لها بعنوان ” الحقيقة والسياسة “، ماذا تفيد العدالة والحقيقة إن وضع وجود العالم في رهان ؟ وهو الآن يسأل : بماذا تفيد الكلمات العذبة الطيبة إن كان وجود الحب في رهان ؟

هي تعتقد أنه يجاملها بتلك الكلمات، يبالغ ربما، يكذب حتى في أقبح الأحوال، لا يغريها كل ذلك الكلام، تعتقد كغيرها من القوم في نقص من يدعيه، من يصيغ الكلمات لحنا يتودد بها إليها، لا ترى في من يتودد إليها بحنو ووداعة صورة والدها المتخيلة، والدها حنون تردد هي ذلك كثيرا، لكنه أجش صعب، لا يلوك الكلمات العذبة هكذا ليل نهار، ترى في صورته المثال، وعلى العشيق المنتظر على الباب أن يتمثل هذه الصورة في فعله وكلماته، كن ثقيلا! بهذه البساطة ترى الأمر، تخاطبه مخاطبة الأم لطفلها الصغير، كن ثقيلا ولا تكثر من كلماتك العذبة، هي ترى في الأمر ضعفا، ينقص من هيبة الرجال. على المحب الصبور أن يصبر على الأذى من أجل محبوبه، يعتقد هو. لكن عقلا قهقريا يردي قلبه حزينا: إن أنت أسهبت في حبك وتماديت في حنوك وكرم لسانك خسرت حبك وخسرت من أحببت. وإن أنت أمتنعت وحاكمت لسانك لعقلك فلا عشقا عشقت ولا حبا أحببت.

النص التاسع عشر:

ثقتك القديمة في أن الأشياء ستكتمل في نهاية الأمر تتداعى، وتتساقط الأشياء مع كل خطوة تخطوها، تظن أحيانا أن يوما ما سيسقط كلك فلا يبق منك شئ. شجرة في صحراء تساقط ورقها، فلم يبقى إلا الجذع يشكو تحرش العراء. كيف يطلبون منك وأنت في خوفك الأبدي هذا من الإنتهاء الموحش، وعدا بأن تكمل الطريق، وأن تبقى مستمسكا إلى النهاية، ترد عليهم بكلمات دنقل وأنت ترشف رشفتك الأخيرة

كيف تنظر في عيني امرأة..

أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟

كيف تصبح فارسها في الغرام؟

فرغ كوب الشاي، أنتهى، أنتفى وجوده، صار ماضيا وذكرى، وكذلك سينتهي كل هذا الضجيج الهادئ المستكين.

النص العشرون :

أعتقد أن الخوف دائماً أقدر من الغضب على إخراج أقبح ما فينا وفي بشريتنا، قد يخاف المرء لتهديد بيولوجي لوجوده ولحياته، ونفي لكيانه كموجود، لكن أشد أنواع الخوف ما كان مهدداً للروح وبقائها، ذلك التهديد الذي يرديك ميت الروح وصحيح الجسد، مبقياً إياك على هامش الحياة، لا موت مت، ولا حياة حييت. وهو تهديد لا يأتي إلا من قريب، فما جرح يؤثر إلا من قريب، إما جراح القوم فهي وإن عظمت تظل على حواف الجسد والجوارح، وهن فروع وهوامش لا يعول عليهم.

وهي مبررنا الوحيد لقبحك المريض الخارج في وجه من تحب. لم يكن قبحا على الحقيقة، كانت ظفرة مضطهد حاولت بها أن تخبره أن جرحه لن يكون كجراح البقية. كانت ميكانزيماك الأخيرة قبل سقوطك الأبدي في حفرة العدم

 

 

Comments

Popular posts from this blog

قراءة في فيلم الأرض

«جنون متبادل»

قراءة في فيلم "الشيخ جاكسون"