ظاهرة المهرجانات: قراءة في سجالات الهامش والمركز
تبدأ الحكاية من الإسكندرية، أو السلام بالقاهرة، يبدأها فيجو أو الدخلاوية، هذا جدال ممتد حول منشأي فن المهرجان، وعن أول مهرجان تم إطلاقه، لكن المؤكد أن بداية المهرجان جاءت من الهامش، حيث المناطق الأكثر فقرًا، والبداية كما يؤرخ لها تأتي في العام 2007.
وقبل البدء في الكتابة، حاولنا قراءة قدرًا لا بأس به عما كتب عن المهرجانات، فالكتابة هي قراءةٌ من نوع ما، وخلصنا إلى أن لدراسة المهرجانات اقترابات عديدة، وهي أخذٌة في الزيادة والتوسع، وتضمُ لها حقولًا معرفية جديدة تهتم بالظاهرة وتعالجها من منظورات سوسيولوجية وثقافية وسياسية وغيرها. ونحن هنا بصدد الاشتباك مع كثير مما أنتجته هذه الاقترابات من نتائج وتحليلات لظاهرة المهرجانات.
يرى البعض في المهرجان انحدارًا للذوق العام، ويرى فيه أخرون فنًا شبابيًا نجح في جذب الفئات الأقل عمرًا، بتركيز جلي على الإيقاع. ويذهب أخرون لنقد مضمونه، ليتحدثوا في الأخير عن سرديات كبرى لهذا الصنف الغنائي، وإطار عام يُكتب من خلاله، مع تركيز على قضايا القوة، والاستعداد للتضحية، وخيانة الحبيبة، والرفاق، إلى أخره. وهو في التحليل الأخير عندهم خطاٌب شعبي وشعبوي في آن، مع ما تحمله الكلمتان من حمولات سلبية جما.
ونحن في هذه الدراسة، نطور طرحًا للتعاطي مع الظاهرة الناشئة، طرٌح لا يعالج الأثار السطحية للظاهرة، ولا يرضى بالوقوف عند بابها، بل يلجها ليثبر عمقها، باحثًا عن حلول لجذور الأزمة ومعالجًا لنتائجها.
ما الذي أدى إلى الانتشار الواسع للمهرجان؟
مثلت ثورة يناير 2011 الانطلاقة الحقيقية لفن المهرجان، ليخرج من هامشه الضيق إلى المناطق الأكثر غنًا ورقيًا بمعايير اقتصادية، ولفرقة 8% لأوكا وأورتيجا تُعزى هذه الانطلاقة الجديدة، وهي اللحظة أيضًا التي بدأت فيها المهرجانات تدخل الـ "Playlists" لطبقات أعلى، متوسطة وفوق متوسطة وعليا. فما الأسباب؟ وكيف استطاع المهرجان رغم كل ما يواجه به من نقد لاذع الدخول لهذه الطبقات، وليصبح الفن الأثير لعديد من شباب جيل الألفية الحالي؟ نتطلع للإجابة على هذا التساؤل في نقاط محددة.
1- مثل المهرجان منذ البداية خروجًا على النغمة الموسيقية الكلاسيكية والتقليدية المعتادة، ومع إيقاع سريع يواكب إيقاع حياتنا المعاصرة، التي لا يجدُ فيها المرء وقتًا كافيًا لسماع أغنية مدتها ساعة أو أكثر ، لعب المهرجان على هذه النقطة وفيها حقق نجاحه، فلاقى المهرجان هوى في ذائقة جيل تأخذه الحياة يُمنة ويُسرة بسرعتها الجنونية، التي توشكُ أن تُفقِد العقل اتزانه، وهو الاتزان الذي يساعد المهرجان في تدميره، فالمهرجان موسيقيًا هو دعوة صريحة للفرد أن يترك الخيط، وأن يسقُط بكل أريحية، لتنساب الموسيقى بعنفوانها بين أوصاله، غير عابئ ببحثه طيلة اليوم عن المحافظة على الاتزان والتحكم في كل شئ، دقائق في الجنة تقدمها موسيقى المهرجان الصاخبة، للفرد في نهاية اليوم، أو أثناء العمل، أو في الطريق وسط الضجيج، دقائق من الحلم ومن السقوط.
2- جيل اليوم هو الجيل الأكثر انفتاحًا على مؤثرات كثيرة كوسائل التواصل الاجتماعي والسينما والكتب وغيرها، نظرًا للوصول السهل والسريع الذي يوفره عالم اليوم، لكل هذه المؤثرات. لذا فهو جيل أكثر تأثرًا بما تبثه هذه المؤثرات من أفكار تنويرية وليبرالية وضد سلطوية، يؤثر هذا المحتوى الذي يتلقاه الأفراد على تفضيلاتهم الثقافية والفنية، لذا فجيل اليوم كما يرى البعض يرفض في جزء كبير منه أي نوع من الصوابية الفنية التي يمارسها الكبار على نوع موسيقي كالمهرجان، ويرفض كذلك المنع كثقافة وممارسة، ربما انتشرت عند أجيال سابقة عانت من تأثيرات سلطوية عديدة، وخطاب واحدي.
3- رغم أننا نُقر بتزايد الفروق الطبقية بين الأغنياء والفقراء، لكن في المقابل ونظرًا لبنية مجتمعنا اليوم العمرانية والتواصلية، فإن حالة من الذوبان تُخلقُ إجباريًا بين الطبقات، خاصة بين من هم في سن أصغر، لذا فتأثر الطبقات ببعضها يتزايد يومًا عن الأخر، وعند الحديث عن المهرجان، فالأمر يصبح أشد، لأن المهرجان لم يعد محددًا جغرافيًا بمناطق الهامش، بل يتمدد في كل الأحياء ويخترقها بموسيقاه، والذوبان بين أفراد الطبقات يساهم في نقل المهرجان بسرعة وخفه إلى كل الطبقات، وحول هذه النقطة نورد تصريح لأحد مطربى المهرجان بالشرقية يسمى "زوزا" حين يقول: "الاختلاف الطبقي بين الغني والفقير عقدة ما زالت موجودة، والأغنياء يمنعوا أبنائهم من الاحتكاك بنا، وليس كل من صعد فى مهرجان غير جدير بالاحترام، نحن نوجه رسائل ونصائح داخل أغانينا، ففي البداية كنا نتحدث خلال الأغانى عن طبقتنا الفقيرة؛ فأحب أبناء الأغنياء هذا وتقربوا منا، فكان رد أهاليهم بإبعادهم عنا والنظر إلينا نظرة احتقار، ولكن هناك أيضا رجال أعمال جيدين في التعامل".[1] وكلماته توحي بالمفارقة والانقسام الحاصل بين أبناء الطبقة العليا أنفسهم، فالفئة الأكبر سنًا ترى في المهرجان انحدارًا للذوق العام، في حين يرى فيه الشباب الأصغر سنًا نوعًا فنيًا ملئ بالبهجة والحيوية وله الحق في الوجود، وهو انقسام يبدو قديم جدًا، يبدأ حتى منذ عبد الحليم حافظ، إذ يُنقلُ إلينا معارضة الطبقة الأرستقراطية لغنائه سنوات عديدة، إذ اعتبرت غنائه انحدارًا ذوقيًا، وهو الوقت الذي اتجهت فيه الأرستقراطية لتسمع غناءً أجنبيًا تبتعد به عن هذا الغناء الصاعد.
4- والأمر في الحقيقة لا يتعلق بالمهرجان وحده، بل يمتد لفنون أخرى كالسينما، وشهدنا في الشهور الأخيرة الاحتفاء الكبير بفيلم الـ"Joker" رغم أن الفيلم يحتفي بالأناركية والخروج عن النظام، وهنا النقطة الجوهرية، وهي أننا نعيشُ عصرًا حداثيًا أطبقت فيه الرأسمالية على الصدور حد الاختناق، في عالم منمط، ومحدد، ومتحكمٌ فيه. لذا فإننا أمام جيل يشعر بخيبة أمل دائمة بداخله، من عجزه عن تغيير العالم، وتحقيق ذاته، فيشعر دائمًا أن هناك ما يشبه الـ"Matrix" التي تتحكم به وبالعالم، يروم هذا الجيل قدرًا من البراح، ويبحث عنه بحث الغريب عن الوطن، وحيثما يجد قدرًا من كسر تابوهات السلطة والمجتمع والتقاليد والخروج عن النظام فإنه يحتفي به ويرى فيه أملًا كبيرًا، حدث هذا مع المهرجان الذي مثل كسرًا لتابوهات الأغنية التقليدية، ومواضيعها التي تركز على الرومانسية، التي تختفي يومًا بعد الأخر أمام عالم استهلاكي، وفي ظل الحياة في الزمن الصعب. مع جيل مأزوم يعاني من وطأة التقاليد، ونمط الحياة الخانق للروح.
5- الوسط الغنائي الموجود قبل المهرجان مهد الطريق لانتشاره، فجيل اليوم يشعر بالاغتراب عن أغاني الـ"mainstream"، التي رآها سطحية وتركزُ على موضوعات لا تدخل ضمن اهتمامه، لذا توجه هذا الجيل إلى أغاني الأندرجراوند والمهرجانات التي تمثل ثورة في الكلمات والموسيقى على السائد والمعتاد، وتختار ألفاظها بحرية، وبناءً على قدرتها التعبيرية العالية، حتى لو خالفت ما يطلق عليه الذوق العام، وتعِيد تشكيل الموسيقى كما يحلو لها ولجمهورها، فالمهرجان نفسه هو عبارة عن "هيب هوب” أمريكى ممزوج بالأغنية المصرية (إليكترو شعبي).
6- نقطة أخيرة تتمثل في وجودية الموسيقى وبداهة أنها لا تحتاج لغة لنعجب بها، وما هو أوضح أنها لا تحتاج ثقافة أو قومية أو طبقة معينة لنفهما، بإمكان المرء أن يحب الأغاني الهندية رغم أن معرفته بالهند ولغتها لا تتعدى "أميتاب باتشان"، والموسيقى هنا خصيصتها الرئيسة التجاوز لكل ما هو خصوصي ثقافي، لذا فهي عالمية، وإنسانية بالمقام الأول المجرد، ولهذا السبب برأينا لم يجد المهرجان أي صعوبة في اختراق كل الطبقات الاجتماعية في مصر، بل انتشر بسرعة الصاروخ وفي سنوات قليلة وفي كل البقاع.
المهرجان والزحف المقدس للهامش
يرى البعض في المهرجان إيذانًا بعودة المهمشين إلى قلب التاريخ، عودة الخارجين من التاريخ والجغرافيا، مرة أخرى إلى ما يستحقوه، أن يحكوا حكايتهم، والحد الأدنى من احترام الحقوق لأفراد المجتمع هو الحق في حكاية الذات، حتى لو تعارك المجتمع وأفراده بعد ذلك على مضمون الحكاية، ونتائجها، لكن ما لا يجب أن نختلف عليه البتة، هو حق الجميع في حكاية الذات. المهرجان برأينا هو حكاية المهمشين، والملفوظين من على عتبات التاريخ، بلا صفة ولا وصف، الفقراء الذين يعيشون على حواف المدينة، بلا زاد للغد، أو أمل فيه، هؤلاء هم كُتاب وملحني المهرجان.
لسنوات تمدد الهامش حتى ابتلع مساحات جغرافية وسكانية كبيرة، هامش يحيا تحت الخط الأدنى للشروط الإنسانية، حاول هذا الهامش بطرق مختلفة مرارًا وتكرارًا التمرد والخروج من هذا الأفق الجغرافي والتاريخي الضيق، والعودة لكتاب آصف بيات"الحياة سياسة: كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط؟" [2] وافية في شرح الكيفية التي قاوم بها سكان الهامش -منشأ المهرجان- التهميش والاقصاء المتعمد اللذين مورسا ضدهم لعقود. لكن بشكل عام كانت المحاولات تُصنع بأدوات صلبة، فقوبلت على الدوام بالصد والوأد في مهدها، فما المختلف هذه المرة، ولماذا يحقق الهامش وأصواته هذا الاختراق للمركز؟
عاد الهامش إذا بأصوات مطربيه إلى هامش الحديث والجدل، هل كان قاصدًا؟ هل قصد حمو بيكا ومجدي شطه وحسن شاكوش وأوكا وأورتيجا وفيجو الدخلاوي وغيرهم أن يتحرشوا بالمركز؟ أم كل ما قصدوه هو الغناء، حتى لو نفى عنهم "حلمي بكر" ونقابة المهن الموسيقية لقب المغنواتيه. ومرة أخرى من يحدد ما هو غنائي؟ وما المعايير؟
الذوق العام: من يحدد معايير ما هو فني وما هو جمالي؟
يؤرخ للانتشار الأوسع للمهرجان على أنه جاء مع تبني شركات الاتصالات لمهرجانات في إعلاناتها واسعة الانتشار، وتطور المهرجان بقفزة أخرى مع دخوله لقاعات السينما، مع نجوم شباك، ومع تزايد انتشار المهرجانات واستقطابها لقطاع كبير من الشباب، بدأ البعض في القلق، لكن من القلقون؟ ولماذا يقلقون؟
هذا السؤال في الحقيقة من أهم ما يجب طرحه عند الشروع في قراءة هذه الظاهرة، فقد حُملت المهرجانات في رأينا أكثر مما تحتمل، فباتت هي سبب الجريمة والتحرش والانفلات الأخلاقي في المجتمع، وشنت لأجلها حملات من هنا وهناك لوأد هذا الانتشار الهائل للمهرجان، الذي زاحم بل وتخطى أباطرة الغناء المتربعين على عروش وقصور الغناء لعقود.
يتمثل القلقون في رأينا في ثلاث فئات. الأولى: المنصبون أنفسهم حماة للهوية المصرية، وينطلق هؤلاء من فكرة أساسية وهي أن المهرجانات تهدد الهوية المصرية، لأنها تضرب في جذور الشخصية المصرية. وبعيدًا عن جدل تعريف الهوية المصرية وتقاليدها، لكن في رؤية هؤلاء لنوع من الفن على أنه تهديد لهوية ترسخت في رأيهم لألاف السنين، يطرح سؤالًا بديهيًا، أي هوية هذه التي يهددها نوع غنائي؟ لننتهي بالقول أن هذا الخوف الهستيري من المهرجان، لا مبرر له كخطر على هوية ترسخت منذ آلاف السنين.
الفئة الثانية: هم أباطرة الفن، أولئك الذي يخافون على عروشهم التي زُلزِلت بفعل نجوم المهرجان -هؤلاء الملاقيط بلا نسب ولا نسبه في أعين نقادهم من أباطرة الصناعة-، يكيل هؤلاء الفنانين وتتقدمهم نقابة المهن الموسيقية النقد اللاذع للمهرجان باعتباره انحدارًا للذوق العام، وإن اتفقنا تجاوزًا على هذا الاتهام، فهل يحق لنا أن نسأل، هل ما سبق المهرجان من غناء في سنواتنا الأخيرة كان رفعًا للذوق الفني؟ هل ساهمت الأغنية اللبنانية بتقاليدها في رفع الذائقة الفنية للجماهير لتأتي المهرجانات لتنحدر بها؟ ولماذا لا تُهَاجم الأغنية اللبنانية رغم أنها تحمل ذات الانحدار في رأي كثيرين؟ بل وأين النقابة من دعم الفرق الموسيقية المستقلة؟ ولماذا تموت كثير من هذه الفرق الواعدة تحت وطأة المبالغ الهائلة التي تُطلب منها؟ لماذا لا تدعم النقابة البدائل الفنية التي ترى فيها رفعًا للذوق العام لتواجه المهرجان؟ لماذا يكون الحل دائمًا قمعيًا يستسهل قصف القلم بديلًا عن صناعة قلم أفضل منه؟ ما دامت هذه الأسئلة بلا إجابات، فإننا نكون ملزمين بالنظر لاتهامات وحملات هؤلاء الأباطرة بكثير من الشك والريبة، لأننا لا يمكن أن نأمن على اللحن والكلمة اللذين يسموان بالروح بأيدي أشخاص لا يمانعون في الحجر على أخرين لمجرد امتلاكهم القوة والقانون في لحظة ما.
الفئة الثالثة: هي البرجوازية ومعها جزء من الطبقة الوسطى، التي ترى في المهرجان تهديدًا لتقاليدها، وغزوًا للخارجين كما في يوتوبيا توفيق، إننا لا ريب نعيش جزءًا من هذه اليوتوبيا، ولدينا جماعة متخيلة بلفظة أندرسن، ترى في نفسها جماعة متميزة ذات نطاق جغرافي وثقافي مختلف عن الهامش الذي يأتي منه المهرجان، متحرشًا بيوتوبيا البرجوازية. لكن مع هذه الاتهامات للمهرجان بالتحرش بالمركز، فإننا لا نتخيل أن مستمعي المهرجان هم من الطبقة المهمشة وفقط، الأرقام التي تأتي من منصات المشاهدة والسماع الإلكترونية تشي بلا ريب بأن المهرجان تمدد بشكل أفقي إلى كل الطبقات الاجتماعية، المهمشة والمتوسطة والعليا في السُلم الاجتماعي، وإن كان انطلاقه الاساسي يأتي من الهامش بشكل عمودي إلى الطبقات الأعلى.
المهرجان بين الحرية والخصوصية: جدل لا ينضب
يواجه المهرجان كفن مشاكل أكبر تتعلق ببنية المجتمع نفسها، وهو ما يخلق وجاهة للنقد الموجه للمهرجان من نقاده المعتدلين، ففي مجتمع كمجتمعنا يواجه بالأساس مشكلة في احترام الخصوصية الفردية، يجعل ذلك من المهرجان وخطابه شيئًا غير قابل للتحكم في انتشاره، فيمكن للمرء أن يسمع المهرجان في وسائل المواصلات أو في الطريق بشكل غير متحكم فيه، وهنا نتحدث عن ضعف في تَشرُب ثقافة الخصوصية والحدود الفاصلة بين ما هو فردى وما هو آخروي.
وبالتأكيد من يسمع بعض أغاني المهرجانات سيتأكد أن جزءًا كبيرًا منها يحمل خطابًا مسيئًا للمرأة، وخارجًا عن كثير مما يُجمع عليه قطاع عريض من أفراد المجتمع، وهو القطاع الذي يرى في المهرجان خطرًا على مستقبل أبنائه، وإذا كنا ننتقد ثقافة المنع من أرضية فلسفية، وندافع عن حق المهرجان وصناعه في الوجود، فمن المنطلق ذاته نَشرع هنا لندافع عن حق هؤلاء في ضرورة تنظيم الفضاء الذي ينتشر فيه المهرجان.
لا يمكن أن يُمنع المهرجان من الفضاء الخاص للفرد، فتلك مسألة متعلقة بالحرية الفردية التي يلزم التأكيد على احترامها كما يرى البعض، ممن يرون في ثقافة المنع نمطًا ما قبل حداثي، وفكرة لا تتحلى بالحد الأدنى لا من الحكمة وحدها، بل حتى من البرجماتية، فالمنع في عالم اليوم، هي فكرة على أقل تقدير تتسم بقدر كبير من السذاجة، في عالم معولم أصغر حتى من القرية الصغيرة. وهي عندهم فكرة ساقطة أخلاقيًا وتؤسس لأنواع أوسع من تقييد الحرية، قد تطال موسيقى الاندرجراوند والسينما المستقلة وغيرها فيما بعد، وإذا توسعنا في المنع، فعن قريب سنكون أمام "صوابية فنية" على غرار "الصوابية السياسية" التي تجتاح عالم اليوم، والتي ستؤدي لا محالة لخنق المجال الفني وتقييده، وهذه المرة سيكون الخنق بأيدي رجالات المجال أنفسهم في نقابة الموسيقيين وليس غيرهم.
لذا يدعو هؤلاء، إلى احترام الخصوصية لمن لا يستمع للمهرجان أو يعترض على خطابه، والتأكيد على حقه، في ألا يسمع المهرجان جبرًا في الشارع أو وسيلة المواصلات أو غيرها، كما يؤكدون على حق محبي المهرجان ومعجبيه في سماع المهرجان وحضور حفلاته وغيرها، لكن طالما لا يُجبر الآخر على سماعه، وأن على الجميع بما فيهم صُناع المهرجان تشرب هذه النقطة كأبجدية من أبجديات الخصوصية.
ومرة أخرى يتضح أن الإشكال متعلق هنا بشكل نظري بسؤال كيف نحترم الحرية الفردية التي تؤكد على حرية الجميع عن التعبير عن ذواتهم بما يناسبهم، وفي الوقت نفسه احترام الخصوصية للأخر الفرد، وأيضًا للمجتمع ككيان له منظوماته الأخلاقية والثقافية والدينية؟
انتصار المهرجان كهزيمة للهامش
جاء انتشار المهرجان كانتصار للمهزومين، لكنه انتصار ما قبل الموت، فحقيقة الأمر أن المهرجان هو نداء أخير من سكان الهامش لما يعيشونه، من تردي على كافة الأصعدة، بلا مبالغات أو تحسس للجمال في هذا الوسط المليء بالقبح، والذي يعاني من التهميش والاقصاء.
لكن ورغم أننا نرى أهمية كبرى لنقد خطاب المهرجان وتفكيكه بما يطور منه ليكون أكثر صدقًا في التعبير عن الطبقات التي يتوجه لها، لكننا نرى في هذا النقد رغم ذلك جهادًا أصغر لا يغني عن جهاد أكبر.
والجهاد الأكبر في رأينا هو تطوير الهامش، ففي حين قد يرى البعض في المهرجان وخطابه فرصة لجلد الهامش، وتصفية حسابات معه، من مثقفين برجوازيين يتأففون من هذا الحيز الذي يجض عليهم مضجعهم أحيانًا بمشاهد وسلوكيات تخالف ما هم فيه وعليه من ترف العيش وسمو ثقافوي مدعى، لكننا نرى في انتصار المهرجان كهامش هزيمة لسكان الهامش أنفسهم، نحن لا نعتقد حين نتحدث عن نجاح الهامش في اختراق المركز، لا نعتبر هذا الانتصار ذا جدوى مستقبلية، خاصة لسكان الهامش، ورغم أننا نرى في المهرجان تعبيرًا عن الهامش، فلا نراه تعبيرًا حقيقيًا وكاملًا عنه وعن تطلعاته، فلسكان الهامش تطلعات حياتية في العيش الكريم والترقي الاجتماعي والثقافي بالتأكيد لا يعكسها صناع المهرجان لأنهم بالأساس يأتون من أسفل السلم الثقافي الهامشي، لكن ما ميزهم هو امتلاك الأداة الأقوى للتعبير وهي الموسيقى.
لذا ففي رأينا يجب أن يعود الهامش ليكون أولوية، لأن الهامش حتى عند من يتغنون بجمالياته، هو قنبلة موقوتة على كافة الأصعدة الاجتماعية والثقافية، وهو هامش يتمدد، وتنحدر بناه الثقافية، فالمهرجان كفن ورغم تطوره الموسيقي، لكنه تراجع تعبيري عن الأغنية الشعبية التقليدية، التي حملت على الدوام خطابًا تعبيريًا أقوى خاصة من حيث الكلمات وعذوبتها، لكن يتعلق الأمر في رأينا بتردى الهامش نفسه وسوء أحواله.
بدون حل الأزمة الحقيقة، في تطوير الهامش وتحديثه، سيظل الهامش يخرج علينا بوسائل تعبيرية أخرى، قد لا يكون المهرجان في المرة القادمة لكنه شيء أخر، لذا فالبعض يرى ضرورة في أن نكف عن التعامل مع المهرجان والهامش بشكل عام كمرحاض نغطيه مرة بعد المرة حتى لا نشم رائحته السيئة، ففي غض الطرف عن الهامش ومشاكله تأثيرات مستقبلية لا يُحمد عقباها، لذا يكون من الجيد إذا نظرنا للمهرجان كإنذار لن أقول مبكر، لأن الإنذارات التي خرجت تعبيرًا عن الأزمة قديمة وأكثر من أن تُعد.
خاتمة
تأسيسًا على ما سبقى، فأننا نصل لخلاصة مفادها أن المهرجان وإن كان ظاهرة غنائية، تبدو محدودة، لكن لها في الحقيقة عديد الإشارات عن منظورات أوسع تعبر عن علاقة سكان الهامش بالمركز، وهي النظرية التي نرى فيها مفتاحًا ممتازًا لفهم الظاهرة، وفهم كثير من تفاعلات سكان الهامش بمركز المدينة، سواء كانت هذه التفاعلات اقتصادية أو فنية أو سياسية أو ثقافية أو غيرها.
قائمة المراجع
1- نجوى أبو العزم: المهرجانات الشعبية ما بين القيل والقال.. تحقيق عن انتشار هذا النوع من الموسيقى بالشرقية، الشرقية توداي، تاريخ النشر: 31 أكتوبر 2015، تاريخ الدخول: 15 مارس 2020 ، على الرابط التالي: https://cutt.us/CrQWL
2- آصف بيات: الحياة سياسة كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط. ترجمة: أحمد زايد، القاهرة، منشورات المركز القومي للترجمة، سلسلة العلوم الاجتماعية للباحثين، (2014)
Comments
Post a Comment