عن شاعر ممسوس - خاطرة
يقولُ شاعرٌ ممسوس: حاولت مرة أن أكتب قصيدة عن ظل محبوبة تزورني في سكراتي، لكني حين أمسكت بالقلم رأيت الظل في المدى يتضاعف، وفي لحظة ساخرة أدركت أن لا مكان عندي لمحبوبة واحدة، ليس لأنهن كثيرات، بل لأنه لا محبوبة هنالك. كان الظل وهم السكرة، والحلم لم يكن سوا غفوة الشراب، لذا فبين الكأس والكأس كنت أنسى، وأعود للقصيدة، فتتفلت الكلمات.
حاولت أن أرسم لها تمثالًا عماده الأبجدية، لكن مرة أخرى تداخلت الظلال، فأيقنت أن لا محبوبة هناك، وعدت للشراب، وبين كأس وكأس تداعى إلى رأسي داعي الوحدة، ودُهِشتُ من إنسان يتحمل هذا القدر منها؟! نظرت إلى الكأس فوجدتها فارغة، قلت هي كحياتي بلا ظل لمحبوبة، ورجعت للقصيدة، ورددتُ أن لا شاعر بلا ليلى.
وحزنت، حزنت لأنه بين كأس وكأس سطعت أمامي حقيقة مُرة، وفي رأسي سمعت الآتي: لم تُحِب بل كتبت. قلت للمنادي: أي فرق؟ فرد علي: حين نرمو الكتابة نخلقُ ظلالًا، لكن حين نحب نخلقُ شُخوصًا.
فُقت من سكرتي، على ظلالٍ تحوطني، وفي يدِ كل منها قصيدة لي، فسألت: لما تحملن قصائدي؟ قلن نحن القصائد، ونحن ملح التجربة، ورحلن! صرخت فلتبقين، لعلكن تحملن الظُلمة من قلبي، أو على الأقل تشاركنني الشراب! قلن لم تخلقننا للشراب بل للكتابة، ورحلن!
هذه المرة لم تتفلت الكلمات بل تفلتت مني القصيدة، وبدت الحروف كطيور صعبة المنال، وبت أنا بلا مجاز، وفشلت في رسم تمثال عماده الكلمات.
فكرت أن الحب لن تصوغه قصيدة إن تمثلت المحبوب كجسد وشخص ماثل للعيان، ربما تغدو القصيدة ممكنة، إن هي عمدت إلى الإنسان، فلا المحبوبة تمثلٌ، ولا هي بالعيان، ربما يقول الشاعر: هي مثال أفلاطوني، صنعته ذات مساء بين كأس وكأس، وفي الليل وأثناء نومي، جاءني هاتف من عرافة سقراط يدعوني للارتحال لوصل هذا المثال! فرحلت.
بوحي العرافة يقرر الشاعر الممسوس أن يكون عماد القصيدة لا شكل المحبوبة وهيئتها، إنما المثال فيها، تمثلُ روحها المتجاوز، لكن تحاربت الكلمات فلم تصف، وظهر المثال كشئ مراوغ تحلم به لكن لا تراه.
فكر الشاعر لوهلة أنه ربما هو الموت وحده هو ما وعدت به العرافة سقراط، حين خاف من دعواها، دثرته بِحُنوها قائلة: هو الموت يا سقراط، ليس بعيدًا لتقترب منه، ولا غائبًا لتطلبه، فقط أِشدُو بأنك باحث عن المثال في عالم لا يحبه، وأنك شهيد الحقيقة في عالم من الزيف، حينها يا عزيزي سقراط سيلتف الموت من كل جانب كعُقاب، وتتسابق زبانيته من كل حدب وصوب، لتأخذ روحك الطاهرة.
يقولُ الشاعر، لست سقراط! لن أطلب الموت، ولا المثال، فقط أطلب قصيدة أصف بها المحبوبة، ربما لا كجسد ولا كمثال، ربما شئ أخر. لكن حتما لا موتٌ كموت سقراط.
Comments
Post a Comment