قراءة في فيلم " The Nile Hilton Incident "
لم أكد أنتهي من مشاهدة هذه التحفة السينمائية، إلا وأقسمت بداخلي أن هذا العمل هو أجمل ما قدمت سينما العرب اليتيمة، والمصرية بالتحديد في قرننا الجديد الواحد والعشرين. لكن شاء القدر ألا أبر بقسمي. فالفيلم على الحقيقة لا يحمل من المصرية إلا أنه يحكي عن حدث مصري بإمتياز، يناير المجيدة حماها الله في القلوب إلى أن يرث الله الأرض وما فيها من حب للحياة وشغف للحرية ولو سالت من أجل طلعتها الدماء.
لوهلة ظننت أن الفيلم مصري، رغم أن كل مكوناته لم تكن لتوحي بذلك في أي لحظة من اللحظات، فنحن إزاء موسيقى تصويرية في غاية الإتقان، وكادرات سينمائية تعيدنا لمجد سينمانا الأول، حيث شاهين يتألق بكاميراه مختطفا البصر قبل المعنى والحوار. ممثل آخر تسألت طيلة الفيلم أيعقل أن يكون مصري؟ أيعقل أن يكون هذا عمله السينمائي الأول؟ إذا فيا لخسارة السينما ويا لخيبة منتجيها إن خسروا أمثاله طيلة هذه العقود. لكن الحمد لله ليس مصريا هو الآخر. فارس فارس، لبناني الأصل ومن ممثلي هولييود. نسخة فرنسية مهندمه بتعبيرات وجه ألبتشينيه. إن صحت هذه النسبة إلى الباتشينو وإن كنت أعلم أنها لغة لا تصح. نسخة رفيعه من الإحساس بالمشهد وعبقرية الأداء، تجسيد عبقري لرجل الشرطة بنفخته للسيجار مرورا بساديته على خلق الله، لصوته الرخيم المخيف، حتى لي أنا كاتب هذه السطور. إنها هولييود يا سادة أتتكم بفلذات أكبادها.
ورغم أني لا أحب التعليق على الأفلام عادة من منطق المحلل الفني فليس ذاك تخصصي ولا الشأن شأني. لكنها والمعذرة، حالة انبهار شديد بهذه العبقرية الفنية وهذا العمل المكتمل، والناطق بالعربية. وكم هي جميلة هي تلك العربية.
هذا عن تقييم الفيلم فنيا، وما هو بالمهم بالنسبة لي، إما الأهم على الحقيقة فهو ما أحب تسميته بسرديات الفيلم الرئيسية، فأعتقد جازما أنه ما من فيلم إلا ويحمل في ثناياه سرديته، كشفت عن سرها لمن كشفت وأخفت نفسها عن من أخفت. لكن في النهاية يظل لكل عمل سينمائي سرديته المعبرة بالضرورة عن توجهات كاتبه ومخرجه. يحاولان مع كل مشهد أو حوار أو كادر أن يقنعانا بها وإن نفوا. وما ينفع النفي لقوم يعقلون.
ورغم أن لي بعض المأخذ على سرديات الفيلم، لكن أكتفي بسردية الفيلم الرئيسية من وجهة نظري، وهي المتعلقة بالأساس بطرح نموذج نمطي لرجل الشرطة. لكن يلزم الإشادة بهذا الطرح الكلي للفيلم على كل حال، بل وأعتقد أن الفيلم هو أدق وأعمق ما طرح من أفلام تناولت حراك يناير أو ما بعدها وهو يبعد كثيرا في الحقيقة عن أفلام ضحله كإشتباك و18 يوم وغيرها.
الفيلم يقدم سردية متكررة مملة عن رجل الشرطة الذي يناضل في مجتمع الشرطة الفاسد باحثا عن الحق والحقيقة ورافعا لواء الدفاع عن المظلومين والمهمشين. هي سردية الهند الأبدية في الحقيقة، ومرتكز سينماها اللطيفة على كل حال. يقدم رجل الشرطة عادة على أنه شارب للمخدرات وممارس شره للجنس، لكنه ورغم كل ذلك يدافع عن الحق وعن العدالة حتى الرمق الأخير، إنها خدعة السينما الأولى، لعب على أوتار المتخيل الخاص بالمشاهد، الرسالة بسيطة هنا للغاية: رجل الشرطه ربما تكون حياته الشخصية سيئة للغاية لكنه لن يتوانى عن التضحية بحياته في لحظة ما زودا عن العدالة.
وسؤالنا الآن لهذه السردية: هل كان هناك ثمة أقلية تصلح الوضع في المؤسسة الأمنية في مصر في أي من اللحظات لتعيد الأمور إلى نصابها؟ الإجابة لا وهنا تموت السردية.
الفيلم يحتاج للكثير لتحليله وتحليل مشاهده. أختم هنا بالمشهد الأخير، وهو من أعظم الكادرات التي رأيتها مؤخرا، وبه من كثافة ورمزية الإسقاطات السياسية ما لا تكفيه عشرات السطور، لكن رسالة قوية حملتها نهاية الفيلم وهي وإن باتت من المعلوم في تأريخ يناير بالضرورة، لكن تظل الصورة خير من ألف كتاب، والرسالة بهذه البساطة تلخص يناير وخيبتها بإمتياز :
شغلنا بالعدو الخطأ وهرب المجرم الحقيقي.
Comments
Post a Comment