من كافكا إلى ميلينا
- صباحُ الخير، لا أنفكُ أذكرك كلما خَلوت إلى نفسي، اللعنة علي وعلى الخلوة لا عليك. سأخبرُك بداية بشئ ربما يرفع عن كلينا حرج ما سيأتي من كلمات. أنا لا أكتبُ إليك لتزيديني وصلاً أو لتمنعنيني قطعاً. فلا شئ من أشيائك يكفي، لا وصل منك يشبعُ شبقي إليكِ، ولا لقاء بك يطفئ لهيب شوقي إليكِ، فما تزيد اللقيا شوقي إلا لهيباً، ولا يزيدني الورد منك إلا عطشاً. لذا فلا شئ منك يكفي لا بعضك يكفي ولا كُلُكِ يكفي.
ولتعذريني في هذا ولتلتمسي لي من الأعذار ألفاً، فتلك ليست مشكلتك، ولا الذنب ذنبك. إنما أنا المذنبُ الملعون بتضخيم الأشياء، أنا من يجعل من الجزء كلاً، ويصيغ من العدم وجوداً. ذنبك الوحيد أني في حضرتك أعيدُ ترتيب الأشياء من جديد، أعيد صياغة قواعد اللغة، أرتب حروفها على حروف اسمك. ومع ذلك فلست أنتظر منك شيئاً، ولا يعنيني حقيقة كل هذا الحضور في حضرة غيابك.
- مؤمنٌ أنا أن الكلمات أعجز عن أن تحكيك، وأن الشعر مهما بلغ من جودة الصياغة وعبقرية المجاز، ليقف متصاغراً ذليلاً أمام إستحالة وصفك.
لذا أفكر كثيراً أن أتوقف عن الكتابة من الأساس. ليس فقط لأن اللغة تعجز عن وصف من هم مثلك، ليس هذا فحسب، بل لأني أخشى دائماً من أن يخلط الناس بين كتاباتي وبين واقعي. سيكون من العبثي أن يتصور البعض أني أكتب عن موجود، عن كائن يحيا بيننا، عن حبيبة مثلاً. ترَى هل يصل الغباء والحمق بأحدهم لأن يتصور أن مثل هذا الوصف يليق ببشري ؟!
حسناً حسناً، ربما لا يكون الأمر غباءاً ولا عبثاً، ربما.
- أفكرُ أحياناً أن النقص هو عين الكمال، وأني أحبكُ ليس لأنك الأكمل من بين الناقصات، بل لأنك الأكمل في عيني من بين الكاملات.
هل نقصك البشري هو ما يمنحك تلك الفرادة الآسره ؟ ربما يصيغُ هذا السؤال على بساطته سؤال الفلسفة الأزلي : لماذا في لحظة ما بمكان ما يتوقف الزمن أمام أحدهم، ليجعلنا نتمنى لو أن العالم كله قد صمت، وترك لهذا الشخص وحده الحديث ؟ يجرنا هذا السؤال لأسئلة كثيرة : من أين يأتي لأعيننا كل هذا البريق واللمعان أمام أحدهم ؟ كيف لنا أن ننسى في لحظة ما كل قضايانا من هموم الوطن والأمة والمستقبل وجراحات الماضي وألم اللحظة، لماذا تصبح كل هذه القضايا هامشية أمام قضية واحدة وهي محاولتنا المستميته للفت إعجاب وإنتباه ذلك الشخص ؟ بصورة ربما، برسالة منمقة الألفاظ جزلة الأسلوب وحسنة التعبير، ربما بابتسامة ما، أو مشية، أو منشور ... إلخ
- تلك اللحظة التي تتوقف فيها نواميس الكون، ويصمت فيها ضجيج العالم، ولا يبقى من هذا الضجيج سوى ضحكات متقطعة ممن نحب، ألا تستحق تلك اللحظة التي أحالت ضحكات أحدهم إلى ترانيم للسلام والمحبة، ألا تستحق أن يُفنِي فيها الفلاسفة والعلماء والكتاب أعمارهم يثبورون غورها، ويفهموا كنهها ؟
فأي لحظة في تاريخ البشرية أعظم وأجلُ من هذه اللحظة؟ وأي إنتصار قد يحققه المرء كأن ينال ضحكة ممن يحب ؟ وأي مجد قد يرومه الفتى كرضا محبوبته ؟ وأي تاريخ قد يتركه المحبون خلفهم، كلحظات أقتنصوها سوياً من بين فكي الزمان والأهل والتاريخ ؟
- من جديد أعود إليكِ، لأن الأمر كله في الحقيقة متعلق بكِ، هاذي الحروف إنما هي منكِ وإليكِ !
أخاف أحياناً من أن أجرحك بصمتي، وأشد منه خوفي من أن أجرحك بكلامي، حينها أكون في حيرة تامة، لكني أفضل في النهاية ما دام الجرح قدر مقدور، أن يكون بفعل صمتي لا بفعل كلامي، ففي النهاية صمتي ليس بيدي، إما كلامي فهو فعلي وخطيئتي.
- أخبرتك كثيراً كم أحب فرانتس كافكا، وكيف أني متأثر كثيراً بكتاباته خصوصاً رسائله إلى ميلينا. أنتهيت للتو بعد الفجر مباشرة من قراءة جزء كبير من رسائله. أخبرتك من قبل أني لا أريدك أن تكوني مثل ميلينا، ليس شرطاً عليك أنَّ تكتبي كما تكتب هي، أعلم أنك أساساً لا تحبين الكتابة ولا تطيقين لها حملاً؛ لكنك والحق يقال تتمنين كثيراً لو مُنحتي قدرة على الكتابة لأ لا تقفي عاجزة أمام طوفان رسائلي إليكِ، تودين لو نافستيني في الكتابة كما تنافسينني في بقية الأشياء.
الكتابة هي ربما أكثرُ ما يفرقُ بيننا، ولكنها في الوقت نفسه، أكثر ما يجمعنا. فهي بمثابة الحبل السري في علاقتنا، هي أساسية لحياة الجنين وهي في الوقت نفسه كثيراً ما تهدد بموت كل شئ الأم والجنين والحب.
- الحب ؟!! يجادلني صديقي لساعات عن أنه لا يوجد في الواقع ما يمكن تسميته بالحب، نتجادل بالساعات وأحاول أحياناً أن أشرح له كم أن الحب مركزي لهذه الحياة، وكم هو ضروري لنحيا بسلام وطمأنينة. وأحيانًا أصمت خوفاً من أن يتهمني صديقي كعادته بأني عاطفي أكثرُ من اللازم، وأن الواقع يحمل لي من الخيبات ما سيجعلني أكفرُ بكل تلك الأطروحات السريالية التي أحملها عن الحب. يجادلني صديقي كل تلك الساعات، ورغم أننا نتفق ضمنياً في بداية كل حوار على ألا نتفق في رؤية كل منا للحب، إلا أن صديقي دائماً ما يتفق معي على وجود تلك الحالة حيث يفقد المرء السيطرة على زمام الأمور، حين تتسرب من بين يديه كل خيوط اللعبة، حينها يصير صفراً في المعادلة، ويُعطَى القلب قيادة القافلة، ليتوه بها في صحراء من الخوف والتوتر والتردد، وأرق التعلق، ووجد الحنين، إلى غيرها من خصائص صحراء الحب.
- أسميها صحراء، رغم ما بها من شجر وثمر وماءِ عذب فرات، لكنها والحق يقال تظلُ بالنسبة لي صحراء قاحلة لما تحملهُ صحراء الحب من شظف العيش وتفتت الروح وضيعة العمر وراء السراب.
أنا الآن ومنذ عرفتك أتوه في هذه الصحراء، وكلما خالني طيفك، أحسبني وجدتك، ولكني ويا لخيبة المسعى، كلما إقتربتُ منكِ لا أراك إلا كالسراب يحسبه الظمأن ماءاً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
على كلٍ أرجو ألا أظل على تلك الحالة طويلا،ً كالمعلق بين السماءِ والأرض، مذبذبٌ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
Comments
Post a Comment