عن الرحيل الأخير

من بين ملايين البشر في هذا العالم، كانوا هم لك مصطفين من بين الخلق، وكنت أنت لهم مصطفى. أصدقائك !

هذا الرفيق الذي شاركك كل ذرة ألم تخللت روحكك، لثلاثة أعوام كاملة، لا تتذكر أنت منها غير أن أحدهم جاء من بعيد، من محافظة تبعد عن محافظتك ربما لمئات الأميال. جاء هذا الغريب من بعيد، ليزيل كل الأقارب ويحل مكانهم، متربعا على عرش قلبك، ملكا متوجا، لا صراعات تدور عليه لتزيله عن عرش قلبك. فمكانته هناك لا تعادلها مكانة .

ها هو هذا الغريب يعود غريبا كما بدأ، كما بدأنا أول خلق نعيده.

ها هو يرحل عنك، بفعل الحياة وبفعل القدر، ها هو يرحل رحيلا أبديا، وإن لم تشأ أنت أن يكون أبديا. ها هو يرحل وكأنه لم يوجد يوما، وكأن الذكرى ما تخللت أواصركم.

How do you go back to being strangers with someone who has seen your soul ?!

هنا لا تجدي الكلمات نفعا، لا لشئ غير أن اللغة بطبعها عاجزة عن أن تتحمل كل هذا القدر من المشاعر المكثفة. هنا لا تسعفك مفردات اللغة على كثرتها.

* إلي ذلك الصديق، الذي شاركني بؤسي قبل فرحي، إلي ذلك الذي واساني مريضا، وحملني حين وقعت، كما لم يحملني أو يتحملني أحدهم.

إلى كل الدروب التي خضناها سويا بين جدران حجرتنا الصغيرة، هنا في مدينة الأحزان -مدينة الطلبة- إلي كل الحوارات التي لم ننهيها. وانتظرتنا هي أن ننهيها يوما. ولم نفعل !

إلى كل ماتشات البلايستيشن التي تركني فيها لأهزمه، وكان بإمكانه أن يهزمني فيها هزيمه كهزيمه الذمالك بيبو وبشير.

إلي كل الصور التي التقطناها على حين غفلة من الزمن ومن الذكرى، إلى كل اللقيمات التي تقاسمناها، إلي كل شربة ماء أو بيبسي تقاسمناها،، لا يهم الآن!

نترحل الآن عن كل ذكرى، الآن يحل الشتاء، فكما تعلم winter is coming ، نحسب نحن أن الذكرى تمنحنا دفء يقينا من البرد، لا نعلم نحن أن هذه الذكرى ستصير يوما ما شتاءا عاصفا لا تنفع معه مئات الصور على هواتفنا، نقلبها ليلا في سكنات الجيش الباردة. مؤسف أن لا تسعفنا الصور لنلتحف بها من برد الحنين. وكما تعلم فحنين الشتاء لا يوقر ولا يحترم أحدا!

* سألتني هي يوما: ألا تخاف من هذه الذكريات التي نصنعها الآن، ويتبارى كلانا في صنعاتها ؟

أجبتها حينها، لا لا أخاف، فأنا قوي كفاية لأهزم الذكرى، ولأهزم الحنين، ولأهزم الفراق.
كذبت، وكما يقول نذار" والحمد لله أني كذبت "
فنحن لا نهزم الذكرى، ليس لضعف فينا، لكن فقط لأن الذكرى لا تهزم، في الحقيقة ليس من طبيعتها حتى أن تهزم.

نحن أضعف من الذكريات، أعجز عن أن نواجه الحنين إذ ينخر في أرواحنا. فأن تحن إلى أحدهم يعنى أن روحك مستعمرة محتلة من الأعماق، وهذا استعمار كئيب غاشم، ليس لك للاستقلال عنه من سبيل.

فهذا سجنك الأبدي الكبير،وأنت بكل هذا الحنين ملعون.

* ما يلي هو نص قديم، يعتسف اللغة، ويعتسف الرحيل والحنين، أحاول فيه أن أجعلك تكره من أحببتهم ورحلوا. كره أرجو منه أن يزيل عنك مرارة الحنين ووحشته.

لكني ولعلى أصدقك الحديث وأكون لك من الناصحين؛ أقول:
نحن لا نكره من أحببناهم يوما، هذا لم يحدث يوما، ولن يحدث أبدا.

- نص يعتسف اللغة ويعتسف الحنين :

في البدء كنت أنت ، وفي المنتهي كانوا هم ، لا أظن أنك نسيت حين نسوا ، ولا أظنهم ذهبوا لمحل لقياك الأول يبكونه أطلالا كما ذهبت ؟! ، لا أظنهم قرأوا رسائل الماضي بعدد المرات التي قرأت ، ولا أحسبهم بكوا في الليالي الحالكات كما بكيت ، هما رحلوا ولم يعبؤا ببكاك ، بتوسلك طيلة الطريق ألا يرحلوا ، انت وحدك بكيت وانت وحدك شكيت ، كان نداء الموت أعلي من كل صراخك فيهم ألا يرحلوا !

وحدك الآن تسير وحيدا في طرقات وأزقة وحواري قطعتموها معا في سالف الأيام ، وحدك الآن تحترق بنيران لم يحترقوا بها ؛ نيران الفقد ولهيب الذكري .

حضر الكل وغبت أنت عن جنائز الموتي ، أكان موتهم هم حقا  أم كان موتك ؟ أيموت الأحبة حقا أم نموت نحن بموتهم ؟ ومن قال أن الموت يعني التراب واللحد ؟ فما بالنا إذا بموت القلب وترهل الذكري وانقطاع الامل بفراقهم ؟

وحدك ستغيب حين يحضر الجميع ، هذا لأنك وحدك من أتيت حين غابوا هم ؛ فلا عليك الآن ؛

ولأن الاماكن كانت هكذا دائما خادعة ماكرة خائنة لكل ذكري ، فلا عليك الآن إن لم تسعفك الذاكرة لتتذكر مقعدهم من هذا المكان أو ذاك ، لا عليك إن التبست عليك الكراسي ، لا عليك إن نسيت أكان الكرسي الخامس في الصف ام السادس هو مقعدهم ، لا عليك إن نسيت التفاصيل ، تفاصيل التفاصيل ؛ عدد معالق السكر في شايهم ، كتابهم المفضل ، شخصيتهم المفضلة في ذلك الفيلم الهولييودي الذي أنتج في الستينات ....

الآن يبكوك برحيلهم مثلما أضحكتهم ، الان يبكوك كما أضحكوك .

من بعدهم أراك تتوه في التيه ، تحتضن العدم ، تذوب بكل ما تبقي من وجودك في اللاشئ ، هذا اللاشئ الذي بات يمثل لك بعد رحيلهم كل شئ ، هذا لأنه ما من شئ بات قادرا أن يعوض مكانهم الشاغر في قلبك ، ولا شئ من أشياء الحياة بقادر أن يعوض اشيائهم الشاغرة في حياتك .

الآن تستمسك بردائك ، تلتحف بذاكراهم من رحيلهم .

في ليالي الشتاء الطويلة رحلوا تاركين الشاي وما برد ! تركوا قصاصات الورق التي لطالمها راسلوك بها ، رواية اهديتها لهم ولم ينهوها ، حلما حلموه ولم يعيشوه ...

حتي الكتابة ، تلك التي ظننتها يوما ملجأك ، ها هي الآن تشكل سجنك الأبدي ، يوما ما كنت تحتمي بها من كل شى ، الآن تحتمي بكل شئ منها ، مطالب انت الآن أن تتألم بكل حرف كتبته وبكل اسلوب بليغ حاولت تصنعه واقتفائه لأجلهم ، تتألم بكل تقليبة لك في قواميس العربية ومعاجمها وكتب شعرها وأدبها ،  بحثا عن كلمة تمدحهم بها ، تليق بما لهم في قلبك ، الآن تدميك كلماتك ، يعذبوك بها ، يقتلوك بها .

كأنَّني مُذ غِبتَ عنّي غائبُ (أبو تمام)
It`s as thought, since you left me, I am absent
(Abo Tammam)

Comments

Popular posts from this blog

قراءة في فيلم الأرض

«جنون متبادل»

قراءة في فيلم "الشيخ جاكسون"