في حجرتي ( قصة قصيرة )

هذا لا يغيرُ من الأمرِ في شئ! أنت تعلمُ ذلك.

تجلسُ الآن وقد قاربت الشمسُ علي طلوعها، ترتبُ حاجيات حجرتك، رواياتك، كتبك، أقلامك، وغيرها. تسرع في الترتيب وتزيدُ من إيقاعِ حركتك لعلك توقف بها ذلك الجحيم الذي بدأ للتو في التغلغلِ بداخلك منذ صليت الفجر، وجلست تتصفح هاتفك الجوال. عبثاً تحاول بخطواتك المتسارعة وبوثبك المتكرر في أرجاء الغرفة هنا وهناك أن تبعدَ ذلك الشعور اللعين بداخلك بأنَّ الحياة وهمٌ كبير.

* الحياة؟؟؟ 
يظن أن ألف ألف من السنوات غير كافية ليضع علامات إستفهام تليقُ بالحياةِ وغرابتها.

تنتهي من ترتيب حجرتك، تجلس وحيداً كتائهٍ في صحراء. لا يُعزيكَ في وحدتك سوى أصوات العصافير تستقبلُ النهارَ، وتنوحُ مودعة الليل وظلمته بعد أنَّ ألِفَته وألِفَها. إلا أن عزاء العصافير لك يا صديقي لا يعدو عزاء السراب لتائه الصحراء. يحسبُه ماءاً حتي إذا جاءه لم يجده شيئاً.

* تُسألُ حنا أرندت عن حبها لمارتن هايدجر: هل أحببتيه؟
فتجيبُ في توءِدة: بعض الأشياء أكبرُ من شخصِ واحد.

يجلس محاولاً أن يلملمَ شتات نفسه، يمسكُ ورقة وقلماً أحضرهما معه من القاهرة - قاهرة الضعفاء - ويبدأ في الكتابة مسترشداً بشبنهاور حين يقول:" الإبداع وليدة المعاناة". يأمل أن يصدُقَ شوبنهاور في طرحه. وها هو الآن في ذروة سنام معاناته ووحدته عن الوجود وعن العالم، يضاف إليه إغتراب عن الذات وعدمية تنخر في روحه كنخر المياه للصخور الصلاب. ها هو يشرَعُ في الكتابةِ، هنا في هذه الحجرة الضيقة، المليئة بالأثاث، الخالية من اليقينِ.

* اليقين؟؟؟
ما اليقين؟ هل يرادف السعادة؟ من أين يأتي وكيف لنا بالوصول إليه؟ هل هو حقيقة أم محض أسطورة صنعها الإنسان ليداري بها غربتهُ عن هذا العالم ووحشته في هذا الوجود؟

يمسك قلمه ويشرَعُ في الكتابة، تتطاير الأفكار في أرجاء الغرفة ممزوجة بآهه حزن تعتصر فؤاده حتي لكأنها توشكُ أن تقتلعه من مكانه. هذا الحزن الذي يرتسم في عينيه، ولا يعرف له سبباً، ولا يملك منه مناص. لطالما حاول أن يفرَّ من آسره بضحكات يرسمها علي وجهه، وبعض النكات التي يُلقيها هنا وهناك. لكن يا لله!! أين لهذه السعادة العابرة المصطنعة المارقة، من ذلك الحزن الأبدي السرمدي المتجزر في الأعماق؟!!

* في بداية الأشياء كان العدم، وفي منتهاها سيكون الحزن.

يغلق دفتره، يتوقف عن الكتابة لكي لا يتوقف عن الحياة. يُأمِلُ نفسه بعودة آخري لدفتره. ويعود للحياة ليكملَ دوره في مسلسل الزيف - يسمونه الحياة -.

تجلسُ الآن في نفس الحجرة، وقد قاربت الساعة علي الثانية بتوقيت القاهرة. تنظرُ من حولك فلا ترى غير تلك العتمة الباهرة، وصمت يخيم علي المكان كصمت القبور. الآن وفي هذه الليلة الليلاء، لا عصافير تؤنس وحدَتك، ولا فجر يطلع فيضئُ هذا الليل الحالك شديدُ الظلمة، ربما لا يطلعُ الفجر هذه الليلة! ربما! تتساءل متى يأتي ذلك اليوم حين لا يطلعُ الفجر؟ وَيحِك لقد طال إنتظارك.

* إني أتكلم عن نهاية الليل،
عن نهاية العتمة،
عن نهاية هذا الليل،
إن جئت إلى بيتي، اجلب لي، أيها الحنون،
سراجا،
ونافذة صغيرة؛ لأنظر منها،
إلي زحام الزقاق السعيد.
- ( الشاعرة الإيرانية: فروغ فرخزاد )

الأشياء تفقدُ قيمتها، تتعرى أمامك من كلِ غاية، هذا زمن العراء، حيث تخلع الأشياء عامدة عن نفسها رداء القيمة والمعنى والمثال، لتدنس نفسها بخطيئة الزيف والابتذال والخلاعة. العالم ينهارُ، والأرض تأنُ لما بها. وحجرتك حزينة وأشيائها تنتحب. رواية وجه الله بجانبك يبحث أبطالها عن الله ويشكون إليه في آن جنون العالم. ومن بعيد يأتي صوت مشغل الموسيقي هادراً وحزيناً كبقية الأشياء في عالمك. يصرخ المشغل بصوت فيروز " أهواك بلا أملِ ". توقفُ المشغل وتنظرُ بجانبك فترى ورقة كنت قد علقتها منذ زمن وقد كتبَت عليها إقتباس شهير لديستوفيسكي لا يزيد فيه عن أن يقول " أحبُك بلا أمل "

* " الأمل شئ جيد، ولكنه يؤدي أحياناً إلي الجنون "
- (من shawshank redemption  )

تعيدُ مشغل الموسيقي للعمل، لكنك تقرر بداخلك أنه يكفي ما غنت فيروز لهذه الليلة. لكن يأبى هو إلا أن تستمر السيدة في غنائها الحزين " أنا عندي حنين ما بعرف لمين؟! " تعيد إغلاق المشغل للمرة الثانية، وللحظات يعتصرك الحنين كعادته معك في شهورك الأخيرة.

* يوماً ما حدثك أحد الأصدقاء ساخراً " في الماضي كنت تتمنى أن تموت شهيداً في سبيل الله، الآن لا أراك تموت شهيداً إلا في سبيل الحنين "

مرت ساعة، وها هي عقارب الساعة تدق الثالثة. تسألُ نفسك عن كامل الطريق، عن الرحلة، وعن الغاية، عن الماضي، وعن الحاضر، وعن المستقبل. تسأل عن نفسك ؟ هل ضيعتها ؟ أيتوه الإنسان عن ذاته ؟ وإن تاه فهل يمكن أن يموت الإنسان وما عاد إلي نفسه ؟. تنظر أمامك إلي شاشة حاسوبك وقد وصل فيلم " a walk to remember " إلي منتصفه. تقف لتسأل نفسك ، هل حقاً كانت رحلتك وقد بلغَت الواحده والعشرون a walk to remember ؟

* مشغل الموسيقى يُلازمك الاسئلة، ويشاطرك معاناة البحث وشُح الأجوبة. ماجدة الرومي تصرخُ من بعيد " أبحثُ عنك "

يبحث الجميع عن أشخاص يشاركوهم الرحلة، حتي إذا وجدوهم لما يجدوهم - أعني ماذا لو أنك وجدت شقيق روحك الآخر، ولم يجدك هو ؟ - أم هل تراك يا صديقي صدقت ما قال التبريزي ب" أن ما تبحث عنه يبحث عنك " ؟!!

* صمت للحظات، ثم حدق في السكين الموضوعة على الطاولة وقال :" هي متقوقعة على نفسها دائماً، وتزعم أن لديها أدلة كثيرة تثبت أنها يجب ألا تكون على قيد الحياة، ولذلك فهي تشعر دوما بالاغتراب، وتبحث عن سبب وجيه لوجودها".
- ( رواية وجه الله )

الجمال ذاتي تماماً، ونسبي لأبعد الحدود، وكن جميلا ترى الوجود جميلا ( كلام إنشاء )

* every one is beautiful somehow

هذا صباح مختلف، هكذا يؤمل نفسه الأماني، يحضر حقيبة ظهره، ويملائها بكتبه ورواياته التي لا تفارقه ولا يفارقها. رغم أن بعضها لم يفتح منذ شهور ولا أظنه يفتح في يوم من الأيام.

* من النقص يولد الكمال، والكمالُ أوله نقص رغبَ في الكمال.

شم النسيم، عيد المصريين القومي، وفخرُ حضارتهم الضاربة في أعماق الزمن، عيد البهجة لمن بقيَ في قلوبهم مساحة لاستشعار الجمال. فليس الجميع بمقدورهم أن يروا الجمال هذه الأيام. مع هذا الجو المشحون بالكآبه والعدمية والحزن، تنظر في الأنحاء فلا تجد غير وجوه واجمه وعيون حزينة، وقلوب هدها الإحباط وتتالت عليها لعنات الفشل فتركتها كالقرية الخاوية علي عروشها.

* هذه القرية أعتادت الأحزان، وبات للأحزان طقوس يومية تراها في ذهاب أهلها وإيابهم، تظنهم قد طلقوا الفرح منذ زمن بعيد، حتي استوحشته قلوبهم.

أنتهي من ترتيب حقيبته، يهمُ هو وبقية العائلة للخروج لقضاء اليوم خارجاً، في الماضي كانت لديه تلك الأزمة التي يقابلها كل المراهقون، مع من يقضي العيد مع أهله أم مع الأصدقاء والصحب ؟ الآن حسم صاحبنا هذا الأمر منذ شاهد تحفته الخالدة " the godfather ". وشاهد مارلون براندو وهو يصرخ عاليا " العائلة أولا "

* الجمال أو علم الجمال أو فلسفة الفن أو علم الاستطيقا، هذه كلها مسميات لشئ واحد وهو مدخل الجمال الذي تدرسه الفلسفة، وهو إشكال الفلسفة الأبدي ومدار حديثها وتنظيرها الذي لا ينتهي.

كثيرا ما خاض في ذلك الجدل مع رفاقه حول الجمال، هل نشعر بالجمال فقط في تلك الأشياء التي يوحي منظرها بالجمال؟ أم أن الجمال يقبع هناك في الأعماق ؟. هل القبح نوع من الجمال بشكل ما؟ أم هو نقيض صارم له ؟ هل يحمل القبح في طياته إحساسا ما بالجمال ؟ هل كان أحدب نوتردام جميلا ؟ أم لأنه أحدب ولأن وصفه كان مقززا يعني أنه ليس بالجميل ؟ هل الواقع أجمل أم الخيال ؟ وإن كان الواقع أجمل فهل لأنه واقع وفقط أم لسبب آخر؟

* it's beautiful because it's real

الربيع يستقبل رفيقه شم النسيم كما يليق بالصاحب الوفي أن يستقبل صديقه، الزهور تفتحت علي عادتها من كل عام، إلا أنها أكثر تفتحا وإشراقا هذا العام، أحسب أحياناً أن الزهور ومن شدة حنوها وعطفها. تزيد من نضارتها وبهائها لتعوض ذلك الكم المتزايد من شحنات البؤس والكآبة التي تعم الأرجاء.

ينهي يومه سعيدا مبتهجا، ليعود في المساء إلي حجرته، فهي مبتدائه ومنتهاه، يشعر أنها تمثل وبشكل ما مجده ومأساته، يعود إليها ويلتفت يمنه ويسره، فيلاحظ الأشياء وقد كفت عن النحيب، وإن كان صمتها يأتي علي استحياء، هي مثله تماماً تفرح حين يفرح وتحزن حين يحزن وتنتحب لتواسيه حين يداخله النحيب فينتحب.

أنتهي :"))


Comments

Popular posts from this blog

قراءة في فيلم الأرض

«جنون متبادل»

قراءة في فيلم "الشيخ جاكسون"