جيل الأحلام الكبري والخيبات العظام
في يومٍ من أيامِ الله، سقطَ زينُ العابدين بن علي، وأدركَ الجميعُ أن كُرَةَ الثلجِ بدأت بالحراكِ وها هي تتمددُ لتكتسحَ من تَجِدُه في طريقها. في مصر يصحو القومُ علي نداء " الشعبُ أسقطَ النظام "، بعد أن سمعوا أخًا لهم يصرخُ في تونس الخضراء " بن علي هرب "، يتلقفُ الحالمون بالتغييرِ في اليمن وسوريا وليبيا النداء، فيخرجون كما خرجَ إخوةٌ لهم في تونسَ ومصرَ قد سبقوهم للحرية. الشعوب تتحررُ، وما كان حُلمًا ورديًا، لا يتعدي أَسِرَةَ النائمينَ، ها هو يصيرُ واقعًا ملموسًا، ليجوبَ بلادَ العربِ التي طال شوقُها لمعاني الحرية والكرامة، التي استوحشتها الألسنةُ من طول عَهدِها بالاستبدادِ والقهرِ.
لكن وبين عشيةٍ وضُحاها، يعود الركبُ كما بدأ، وكما بدأت الثورةُ تعود، وها هي أحلام الحالمينَ بالتغييرِ تذهبُ أدراج الرياح، الجيوشُ ترفضُ أن تتركنا نحيا، ويأبي العسكرُ إلا أن يعيدونا لعهدنا الأول من الإستبدادِ والقهرِ وضيعة الكرامة، والحرية، ومعها ضيعة الحياة، فما الحياة إن لم تكن حرية ؟! ومع الوقت تتوالي الإحباطات وتزداد الخيبات والنكبات، وهي هي الرياح تأتي بما لا نشتهي، بطشٌ بثورةِ سوريا، وإنقلابٌ علي ثورةِ مصر، ونظامٌ قديم يعود في حُلَة جديدة ليعيدَ تونس كما بدأت، وكأنه ما قامت ثورةٌ، ولا مات بوعزيزي، الأمر لم يختلفُ البتة في اليمن أو ليبيا، سيانٌ هنا وهناك، ولا شئ يتردد في الأُفُق سوي لحن الخيبةِ الكئيب.
مع هذه الإحباطات أختبَرنا - نحن جيلُ الشباب - عجز اللغة نفسها، قُصورَها، محدوديتها، وليس فقط ضيق معجمنا، في التعبير عما يجري، قرر البعض ونتيجة لذلك أن يلوذَ بالفرارِ من واقِعِه وخيباته، وبدا أن ثمَّه جيلٌ جديدٌ يتشكلُ في الأفقِ، جيلٌ ينسُجُ لنفسِه عالمًا خاصًا يتقوي به علي واقِعِه، عالمٌ يُجملُه بمجموعةٍ من الأفلامِ التي تجعلُه يحيا لحظات من الخيالِ، لم يستطع أنَّ يحياها في الواقعِ، فيصعد الفضاء مع جورج كلوني في" tomorrow land "، ويحبُ إحداهن ويتزوجها في سلام مع توم هانكس في " you've got mail "، ويحقّقُ الثراء مع ديكابريو في the wolf of wall" street ، ويغامرُ مع جوني دب في " pirates of the caribbean ".
هؤلاء البعض ستراهم غالبًا لا تفارقهم سماعات الإذن، سواءٌ بحجمها الكبيرِ أو الصغيرِ، يضعونها في المواصلات وفي الطرقات، في الجامعةِ، وربما داخل المحاضرات، هي لا تفارِقهم ولا يفارقوها، كطفلٍ صغيرٍ يتشبثُ بأمِه خوف التيه والضيعة. المزيكا هنا وفي هذه الحالة تخرجُ من كونها فعلا ممتعًا يصنعُ البهجَةَ، إلي كونها فعلًا دفاعيًا يمارسُونه ليوقوفوا به ضجيجَ العالم، صَخَبُه الذي لا ينتهي. يتمردون بالمزيكا علي الواقعِ، يحيون مع عزيز مرقه وأميمة خليل وغادة شبير ومنير وفيروز وآخر زفير وجدل وأم كلثوم وadele وtaylor swifft وeminum، حياةً لم يستطيعوا عيشها في واقِعهم. خذلهم الواقعُ وأنصفتهم المزيكا، لا لشئ ! إلا لأنَّ الموسيقي مُذْ وجدت وما كان غرضُها إلا أن تقلل بؤسَ العالم، أو كما يقول المثل الغربي" music always help ".
هذا البعض لا تخلو حقيبةُ ظهره من بعض الكتبِ والروايات، كتلك التي يكتبها عرابُهم توفيق، فتراهم يقرأون لماركيز " 100 عامٍ من العزلةِ "، وعقلهم ما زال مع سارماجو في " هكذا كانت الوحدة ". يقرأون في كتبِ الفكر بحثًا عن حلِ لواقعهم، فتجدهم يتعثرون بأسئلةِ الفلسفة، فيسقطون في فرعها من الانطولوجيا، حيث الاسئلة السرمدية: منْ أنت ؟ ومن أين جاء العالم ؟ وإلي أين ينتهي ؟ يقرأون الواقعَ بعيون الخيالِ، ضاق بهم الواقع واتسعت لهم صفحات الكتب. هم في الغالب لا يفوتون أي فاعلية ثقافية أو فكرية، من ندوات هنا لمؤتمرات هناك، ومن نقاش هنا لنقاشٍ هناك، يتغذون علي مجموعة من المقالات، يقرؤنها يوميًا بلا كلل أو ملل. يُمضون الوقت، يقتلونه ربما، يتحرشون به حتي لا تغتصبُهم عدميةُ عدم الفعلِ وعجز التغييرِ.
يسيرون دائمًا في لامبالاة مزعجةٍ للآخرين، أولئك الآخرون الذين َيعُدُونهم في خانةِ الأعداء، فهم من خَذَلوهم مرارًا، وضيعوا صرحَ الثورةِ الذي بنوه بدمائهم ودماء إخوةٍ لهم - أو هكذا يظنون -. تراهم يتمردون ويعترضون دائمًا، وحدهم هم منْ يثبرون أغوارَ السلطةِ أينما حَلَتَ وكيفما كانت، يعرفون زيفها وخداعها، هذا البعض من الصعب أن يتوافقَ مع والده علي طولِ الخط، ناهيك عن أن يتوافق مع إدارة القسمِ أو عميد الكليةِ، أو دكتور المقرر، هو ناقم دائمًا، متمردٌ علي الواقع ومن فيه، كيف لا وقد خذلهُ هذا الواقع علي طولِ الخطِ ولم يُنصفه يومًا؟!
هذا البعض لا يملُ السؤال، لا يملُ البحث، ربما ملَّ منذُ زمن من الحصولِ علي الإجابات، لكنه لم يمل يومًا من طرحِ الأسئلة، ربما كانت تقصدهم هبة رؤوف عزت حين كتبت في إهدائها لكتاب " الخيال السياسي للإسلاميين ":
إلي الذين لا يملون السؤال .. ابداً
يوصفون أحيانًا من الآخرين سالفي الذكر، بالعمقِ وبالابتذال، بالفشلِ عن التعاملِ مع الواقع، بالعدمية، وبعدم القدرة علي تحملِ المسؤولية، بالتعقيدِ، بالإختلافِ عن الآخرين، بالخروجِ عن التقاليد، سواء تلك التقاليد المتعلقة بالدينِ أو المجتمع. يوصمُون أحيانًا بقسوةِ القلب، وأحيانًا بالعجز، إلي غيرها من الوسوم التي لا تعبر إلا عن تصورات قائليها عن هؤلاء البعض.
هذا الجيلُ الذي تشكلَ من رحمِ الخيبات، لم يعد يعبأ بتلك الشعارات الرنانة التي تبشرُ بالتغييرِ، لم يعد يُلقي بالًا للسرديات الكبري والغايات الحالمات، أظنهم توقفوا منذُ زمن بعيد عن أنَّ يحلموا للوطن، وضنُوا بأحلامهم لأنفسهم، تبدلَت أحلامهم وما كان يومًا ما حُلمًا بوطنِ ناهضِ، يخلو من القهرِ والفسادِ، بات حُلمًا بجوازِ سفرِ للخارجِ، وسيكون من الجيدِ أنَّ يكون هذا الخارج ألمانيا أو إيطاليا، أو أي بلد لا يذكرهم بماضيهم المُغتَال، ماضي العرب الذي بيعَ في أسواق النخاسة بزهيدِ الأثمان.
مَلُوا من السياسة ومن جدالاتها التي لا تنتهي، لم يعد يعنيهم الأمر كثيرًا، يعلمون أنَّ كل هذا الهُراء ما هو إلا تَبِعات الزلزال - أعني خيبتهم الكبري - ثورتهم التي ضاعت، وظل دمُها المسفوكُ والمطبوعُ علي دبابات العسكرِ وملابس الجنرالات الملطخة بالدماء، شاهد صدقٍ على ما حدث، والتاريخ لا ينسي.
منْ السببُ إذا؟ ضحايا هم أم جناةٌ مجرمون؟ الدولة التي أغلقت المجالَ العام في وجههم، وأعتقلت الشباب والشيبة، أم النخب التي باعت أحلامهم في مزادِ السلطةِ وبهرجة الكراسي؟ أم العجائز الذين ساؤهم ويلات الخنوع والخضوع لما يطلقُون عليه أمرًا واقعًا؟
المؤكد هنا أنهم ومهما أظهروا من رباطةِ جأش، ولامبالاة، وعدمية في تعاملهم مع الواقع، فالمؤكد أنهم يعيشون حياةَ هشة، حياة مهددة طيلة الوقت، من فرطِ الأسئلة التي لا إجابات لها، ومن فرط الوعي بالواقع؛ فأن تعي يعني أنَّ تتألم، وهؤلاء وعوا وشربوا من كؤوس الوعي حتي الثُمَالة، لذا فواقعهم هش، لأنه واقع صنعَ من الخيالِ، هو واقع في عوالم أخري، لذا تراه واهن كبيوت العنكبوت، لكنه في النهايةِ وبالنسبةِ لهم خير من التماهي مع واقعهم الفعلي.
أظنهم ورغم كلْ شئ يفضلون هشاشة الخيال الحقيقي، علي تماسكِ الواقع المزيف.
Comments
Post a Comment